فصل في الاستدلال على نفي الحركة والسكون والاتصال بالعالم والانفصال عنه ومحاذاة شيء من الخلق عن الله سبحانه بنقول من مشاهير المذاهب الأربعة

Arabic Text By Jul 13, 2015

فصل في الاستدلال على نفي الحركة والسكون والاتصال بالعالم والانفصال عنه ومحاذاة شيء من الخلق عن الله سبحانه بنقول من مشاهير المذاهب الأربعة

 

 

ادعت المجسمة ومنهم الوهابية أن الله تعالى ليس داخل العالم بل هو خارج العالم مقلدين بذلك سلفهم ابن تيمية [1] فهو يقول في الرسالة التدمرية ما نصه: فيقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق؟ فالله ليس داخلاً في المخلوقات، أم تريد بالجهة ما وراء العالم؟ فلا ريب أن الله فوق العالم مباين للمخلوقات” ا.هـ.

 

فالجواب أن يقال: الله تعالى نفى عن نفسه المماثلة لشيء لقوله: {ليسَ كمِثلِهِ شيءٌ}، أطلق نفي مماثلة شيء من الخلق له ولم يخص شيئًا دون شيء، فبناءً على ذلك نقول: لو كان الله تعالى متصلاً بشيء من الخلق لكان له أمثال لا تحصى ولو كان منفصلاً عن شيء من المخلوقات لكان له أمثال لا تحصى، ولو كان متحركًا لكان له أمثال، ولو كان ساكنًا لكان له أمثال، ولو كان ساكنًا وقتًا ومتحركًا وقتًا لكان له أمثال لا تحصى، ولو كان له حد أي كمية لكان له أمثال لا تحصى، فأفهمنا الله تعالى بهذه الآية أنه منزه عن هذه الأوصاف. فإن قيل لو كان الله تعالى منتفيًا عنه هذه الأوصاف لم يكن موجودًا، فالجواب: ليس من شرط الوجود أن يمكننا تصوره، ففي المحلوق ما لا يمكن تصوره وهو الوقت الذي لم يكن فيه نور ولا ظلام، والإيمان بذلك واجب لقول الله تعالى: {الحمدُ للهِ الذي خلقَ السمواتِ والأرضَ وجَعَلَ الظُّلُماتِ والنُّورَ} [سورة الأنعام] أي أوجد الظلمات والنور بعد أن كانا معدومين وذلك أن أول المخلوقات الماء والعرش ثم القلم واللوح، بدليل حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: “كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء” والذكر هو اللوح المحفوظ. وقوله عليه الصلاة والسلام: “أول ما خلق الله تعالى القلم فقال له اكتب، فقال: وما أكتب، فجرى القلم بما كان وما يكون” [2].

 

فنعلم من الحديثين أن النور والظلام لم يكونا قبل الأربعة إنما وجدا بعدها، ولا يمكن لأحد أن يتصور هيأة وقت ليس فيه نور ولا ظلام، وإنما يتصور العقل وقتًا يوجد فيه أحدُهما دون الآخر. نقول كذلك يصح وجود الله تعالى مع انتفاء هذه الأوصاف كلها عنه، فمن هنا قال أئمة أهل السنة كالإمام أحمد بن حنبل والإمام ذي النون المصري وغيرهما: “مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك” روى ذلك الحافظ الخطيب البغدادي عن الإمام ذي النون المصري، ورواه عن الإمام أحمد بن حنبل أبو الفضل التميمي في كتابه اعتقاد الإمام المبجّل أحمد بن حنبل.

 

وفي معناه قول ابن عباس رضي الله عنهما: “تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله”. رواه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات بإسناد جيد، لأنه لا يمكن تصوير الله في النفس، ونص على ذلك جماعة من علماء المذاهب الأربعة منهم الإمام الجليل أبو سعيد المتولي أحد أصحاب الوجوه في مذهب الشافعي وهم الطبقة التي تلي الإمام الشافعي، ثم النووي وابن حجر الهيتمي وغيرهما على ذلك، ومن المالكية سيدي أبو عبد الله محمد جلال والعالم محمد بن أحمد ميّارة وغيرهما، ومنهم من الحنفية أبو المعين النسفي والعالم الشهير محمود بن محمد القونوي شارح العقيدة الطحاوية وغيرهما بل ذلك يفهم من قول الطحاوي: “تعالى –يعني الله- عن الحدود والغايات” لأن الشيء الذي لا كمية له لا يصح في حقه الاتصال والنفصال، ومن الحنابلة الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي وغيره بل قول الطحاوي المذكور وهو نقلٌ عن السلف كلهم فيه تنزيه الله عن الاتصال والانفصال لنقله عنهم نفي الحد عن الله، والحد هو الكمية أي الجِرْمُ وهو الذي يُسمّى جوهرًا في اصطلاح علماء التوحيد وهو أصغر كمية وأصغر جرم، وهو في نهاية القِلّة بحيث لا يقبل الانقسام، سُمّي جوهرًا لأنه أصل الجسم، والجوهر في اللغة الأصل كما قال الحافظ اللغوي مرتضى الزبيدي، ويقال في اصطلاحهم لما زاد على ذلك جسم، ومن ليس له كمية لا يوصف بالاتصال والانفصال. فإذا تقرر هذا فلا يهولنَّكم قول المشبهة: إن القولَ بأن الله موجود من غير أن يكون متصلاً بالعالم ولا منفصلاً عنه ولا داخله ولا خارجه نفي لوجود الله، فيقال لهم: هذه شبهة بنيتموها على أصل غير صحيح وهو أنكم جعلتم شرط الوجود أن يكون الشيء له اتصال أو انفصال وأن يكون داخل العالم أو خارجه، فالمشبهة يعترفون أن الله كان موجودًا قبل العالم لا داخله ولا خارجه، قال أهل السنة: كذلك بعد أن خلق العالم هو موجود كما كان لا داخل العالم ولا خارجه، فبهذا تكون قد بطلت شبهتهم وتمويههم.

 

ومن غباوة العقل ما نقله ابن تيمية عن بعض رءوس المشبهة وهو عثمان بن سعيد الدارمي أن شرط الحي الحركة مستحسنًا له غير مستنكر، ويكفي قول الله تعالى: {ليس كمثله شيء} في نفي الاتصال عن العالم والانفصال عنه والكون داخله أو خارجه، وذلك لأن العالم جوهر وعرض، والجوهر إما جرم كثيف وإما جرم لطيف، والأول كالإنسان والجمادات، والثاني كالنور والظلام والريح، والعرض صفات الجوهر كالحركة والسكون، ولو كان الله تعالى جوهرًا يتحيز كالإنسان لكان له أمثال، وكذلك لو كان متصلاً أو منفصلاً لكان له أمثال في خلقه، ولو كان داخل العالم لكان مَحوِيًّا بالعالم ومظروفًا، وذلك يقتضي إثبات الكمية لله تعالى ولو كان كذلك لكان له أمثال في خلقه، ولو كان خارج العالم كان محاذيًا للعالم بقدر العالم أو أصغر أو أكبر منه وذلك يقتضي تقدير ذات الله ويؤدي إلى إثبات الجزء له تعالى، وذلك ينافي الأزلية والقدم، والله تبارك وتعالى هو الذي جعل خلقه على مقادير مختلفة ولو كان له مقدار لكان له أمثال في خلقه.

 

وقد نص الإمام المحدث الحافظ المفسر عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي على نفي التحيز في المكان والاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق عن الله تعالى فقال في كتابه دفع شبه التشبيه [3] يحكي قول المجسّم الحنبلي وهو ابن حامد قال –يعني ابن حامد المجسم-: “وقد ثبت أن الأماكن ليست في ذاته ولا ذاته فيها فثبت انفصاله عنها ولا بد من بدء يحصل به الفصل، فلما قال استوى علمنا اختصاصه بتلك الجهة، قال: ولا بد أن يكون لذاته نهايةٌ وغاية يعلمها. قلتُ: هذا رجلٌ لا يدري ما يقول، لأنه إذا قدّر غاية وفصل بين الخالق والمخلوق فقد حدده وأقر بأنه جسم وهو يقول في كتابه إنه ليس بجوهر لأن الجوهر ما يتحيز، ثم يثبت له مكانًا يتحيز فيه.

 

قلت: وهذا كلام جهل من قائله وتشبيه محض فما عرف هذا الشيخ ما يجب للخالق تعالى وما يستحيل عليه، فإن وجوده تعالى ليس كوجود الجواهر والأجسام التي لا بد لها من حيز، والتحت والفوق إنما يكون فيما يُقابَل ويُحاذى، ومن ضرورة المحاذي أن يكون أكبر من المحاذى أو أصغر أو مثله، وأن هذا ومثله إنما يكون في الاجسام، وكل ما يحاذي الأجسام يجوز أن يمسها، وما جاز عليه مماسة الأجسام ومباينتها فهو حادث، إذ قد ثبت أن الدليل على حدوث الجواهر قبولها المماسة والمباينة، فإن أجازوا هذا عليه قالوا بجواز حدوثه، وإن منعوا هذا عليه لم يبق لنا طريق لإثبات الجواهر، ومتى قدّرنا مستغنيًا عن المحل ومحتاجًا إلى الحيز، ثم قلنا: إما أن يكونا متجاورين أو متباينين كان ذلك محالاً، فإن التجاور والتباين من لوازم التحيز في المتحيزات.

 

وقد ثبت أن الاجتماع والافتراق من لوازم التحيز، والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالتحيز، لأنه لو كان متحيزًا لم يخل إما أن يكون ساكنًا في حيزه أو متحركًا عنه، ولا يجوز أن يوصف بحركة ولا سكون ولا اجتماع ولا افتراق، ومن جاورَ أو باين فقد تناهى ذاتًا والتناهي إذا اختص بمقدار استدعى مخصصًا، وكذا ينبغي أن يقال ليس بداخل في العالم وليس بخارج منه، لأن الدخول والخروج من لوازم المتحيزات فهما كالحركة والسكون وسائر الأعراض التي تُحسّ بالأجرام.

 

وأما قولهم خلق الاماكن لا في ذاته فثبت انفصاله عنها قلنا: ذاته المقدس لا يقبل أن يُخلق فيه شيء ولا أن يحل فيه شيء، وقد حملهم الحِسّ على التشبيه والتخليط حتى قال بعضهم إنما ذكر الاستواء على العرش لأنه أقرب الموجودات إليه، وهذا جهل أيضًا لأنه قرب المسافة لا يتصور إلا في جسم، ويعزُّ علينا كيف يُنسَبُ هذا القائل إلى مذهبنا. واحتج بعضهم بأنه على العرش بقوله تعالى: {إليهِ يصعدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعملُ الصالِحُ يرفعُهُ} [سورة فاطر] وبقوله: {وهُوَ القاهِرُ فوقَ عِبادِهِ} [سورة الأنعام] وجعلوا ذلك فوقية حسية ونسوا أن الفوقية الحسية إنما تكون لجسم أو جوهر، وأن الفوقية قد تطبق لعلو المرتبة فيقال: فلان فوق فلان، ثم إنه كما قال تعالى: {فوقَ عبادِهِ} قال تعالى: {وهُوَ معكُم}، فمن حملها على العلم حمل خصمُه الاستواء على القهر، وذهبت طائفة إلى أن الله تعالى على عرشه وقد ملأهُ والأشبه أنه مماس للعرش والكرسي موضِعُ قدميه. قلت: المماسة إنما تقع بين جسمين وما أبقى هذا في التجسيم بقية” ا.هـ. كلام ابن الجوزي ولقد أجاد وشفى وكفى.

 

وقال الإمام أبو منصور المحدث الشافعي البغدادي [4] الذي وصفه ابن حجر بأنه الإمام الكبير إمام أصحابنا أي الشافعية وهو من جملة مشايخ البيهقي: “وأجمع أصحابنا على إحالة القول بأنه في مكان أو في كل مكان، ولم يجيزوا عليه مماسة ولا ملاقاة بوجه من الوجوه، ولكن اختلفت عباراتهم في ذلك فقال أبو الحسن الاشعري: إن الله عز وجل لا يجوز أن يقال إنه في مكان، ولا يقال إنه مباين للعالم، ولا إنه في جوف العالم، لأن قولنا إنه في العالم يقتضي أن يكون محدودًا متناهيًا، وقولنا إنه مباينٌ له وخارج عنه يقتضي أن يكون بينه وبين العالم مسافة والمسافة مكان، وقد أطلقنا القول بأنه غير مماس لمكان”. انتهى.

 

وقال العلامة محمد بن أحمد المشهور بميّارة المالكي [5] في كتابه الدر الثمين ما نصه: “مسألة: سئل الإمام العالم أبو عبد الله سيدي محمد بن جلال هل يقول: المولى تبارك وتعالى لا داخل العالم ولا خارج العالم؟ فأجاب السائل: هكذا نسمعه من بعض شيوخنا، واعترضه بعضهم بأن هذا رفع للنقيضين، وقال بعض فقهائنا في هذه المسألة هو الكل أي الذي قام به كل شيء وزعم أنه للإمام الغزالي، فأجاب بعضهم: أن هذا السؤال معضِل ولا يجوز السؤال عنه، وزعم ابن مِقلاش هكذا فأجاب عنه في شرحه على الرسالة، فأجاب: بأنّا نقول ذلك ونجزم به ونعتقد أنه لا داخل العالم ولا خارج العالم، والعجز عن الإدراك إدراك لقيام الدلائل الواضحة على ذلك عقلاً ونقلاً، أما النقل فالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {ليسَ كمثلِهِ شيءٌ وهُوَ السميعُ البصيرُ} [سورة الشورى] فلو كان في العالم أو خارجًا عنه لكان مماثلاً، وبيان الملازمة واضح أما في الاول فلأنه إن كان فيه صار من جنسه فيجب له ما وجب له، وأما الثاني فلأنه إن كان خارجًا لزم إما اتصاله وإما انفصاله، وانفصاله إما بمسافة متناهية أو غير متناهية وذلك كله يؤدي لافتقاره إلى مخصص، وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: “كان الله ولا شيء معه”.

 

وأما الإجماع فأجمع أهل الحق قاطبة على أن الله تعالى لا جهة له فلا فوق له ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف.

 

وأما العقل فقد اتضح لك اتضاحًا كليًا مما مر في بيان الملازمة في قوله تعالى: {ليس كمثله شيء}، والاعتراض بأنه رفع للنقيضين ساقط، لأن التناقض إنما يعتبر حيث يتصف المحل بأحد النقيضين ويتواردان عليه، وأما حيث لا يصح تواردهما على المحل ولا يمكن الاتصاف بأحدهما فلا تناقض، كما يقال مثلاً: الحائط لا أعمى ولا بصير، فلا تناقض لصدق النقيضين فيه لعدم قبوله لهما على البدلية، وكما يقال في البارئ أيضًا لا فوق ولا تحت وقس على ذلك. وقول من قال إنه الكل زاعمًا أنه للغزالي فقضية تنحو منحى الفلسفة أخذ بها بعض المتصوفة وذلك بعيد من اللفظ، وما أجاب به بعضهم أنه معضل لا يجوز السؤال عنه ليس كما زعم لوضوح الدليل على ذلك، وإن صح ذلك عن ابن مقلاش فلا يلتفت إليه في هذا لعدم إتقانه طريق المتكلمين إذ كثير من الفقهاء ليس له خبرة به فضلاً عن إتقانه” ا.هـ.

 

وقال النووي الشافعي [6] ما نصه: “وتحصل الردة بالقول الذي هو كفر، سواء صدر عن اعتقاد أو عنادٍ أو استهزاء، هذا قول جملي، وأما التفصيل فقال المتولي: من اعتقد قدم العالم، أو حدوث الصانع، أو نفى ما هو ثابت للقديم بالإجماع ككونه عالمًا قادرًا، أو أثبت ما هو منفيٌّ عنه بالإجماع كالألوان، أو أثبت له الاتصال والانفصال كان كافرًا”. ا.هـ.

 

وممن قال بنفي الاتصال والانفصال بالعالم عن الله تعالى الغزالي، قال ابن حجر الهيتمي الشافعي [7] في كتابه “الإعلام بقواطع الإسلام” في شرح كلام للغزالي ما نصه: “ومن ثم قال الغزالي معناه أن مصحح الاتصال والانفصال الجسمية والتحيز وهو محالٌ –على البارئ- فانفك عن الضدين، كما أن الجماد لا هو عالم ولا جاهل لأن مُصحح العلم هو الحياة فإذا انتفتِ الحياة انتفى الضدان”. ا.هـ.

 

وقال الشيخ أبو المعين ميمون بن محمد النسفي الحنفي لسان المتكلمين في تبصرة الأدلة [8] في رد قول المشبهة إنه تعالى لما كان موجودًا إما أن يكون داخل العالم وإما أن يكون خارج العالم، وليس بداخل العالم فكان خارجًا منه، وهذا يوجب كونه بجهة منه، قال: “والجوابُ عن هذا الكلام على نحو ما اجبنا عن الشبهة المتقدمة أنّ الموصوف بالدخول والخروج هو الجسم المتبعّض المتجزئ، فأما ما لا تبعض له ولا تجزؤ فلا يُوصف بكونه داخلاً ولا خارجًا” ا.هـ. ثم قال [9] في إبطال قول المشبهة لما كان الله تعالى موجودًا إما أن يكون مماسًا للعالم أو مباينًا عنه وأيّهما كان ففيه إثبات الجهة: إذ ما ذُكر من وصف الجسم، وقد قامت الدلالة على بطلان كونه جسمًا، ألا أن العرض لا يوصف بكونه مماسًا للجوهر ولا مباينًا له، قال: “وهذا كله لبيان أن ما يزعمون ليس من لواحق الوجود بل هو من لواحق التبعض والتجزئ والتناهي وهي كلها محالٌ على القديم تعالى” ا.هـ.

 

يعني أنه ليس من شرط الموجود كونُ الوجود مماسًا له أو مباينًا أو متصلاً بغيره أو منفصلاً عنه أو داخلاً فيه أو خارجًا عنه، إنما هذا من شرط التبعض والتجزئ والتناهي وذلك كله محال على القديم تعالى.

 

وقال العلامة البياضي الحنفي في إشارات المرام [10] ممزوجًا بالشرح ما نصه: “الخامس: ما أشار إليه “وقال في الفقه الأبسط: كان الله تعالى ولا مكان، كان قبل أن يخلق الخلق كان ولم يكن أين” أي مكان “ولا خلق ولا شيء، وهو خالقُ كل شيء” موجد له بعد العدم فلا يكون شيء من المكان والجهة قديمًا وفيه إشارات:

 

الأولى: الاستدلال بأنه تعالى لو كان في مكان وجهة لزم قدمهما، وأن يكون تعالى جسمًا، لأن المكان هو الفراغ الذي يشغله الجسم، والجهة اسم لمنتهى مأخذ الإشارة ومقصد المتحرك فلا يكونان إلا للجسم والجسماني، وكل ذلك مستحيل كما مر بيانه، وإليه أشار بقوله: “كان ولم يكن أين ولا خلق ولا شيء وهو خالق كل شيء”. وبطل ما ظنه ابن تيمية منهم من قدم العرش كما في شرح العضدية.

 

الثانية: الجواب بأن لا يكون البارئ تعالى داخل العالم لامتناع أن يكون الخالق داخلاً في الاشياء المخلوقة، ولا خارجًا عنه بأن يكون في جهة منه لوجوده تعالى قبل خلق المخلوقات وتحقق الأمكنة والجهات، وإليه أشار بقوله: {هُوَ خالقُ كُلِّ شيءٍ} [سورة الأنعام] وهو خروج عن الموهوم دون المعقول.

 

الثالثة: الجواب بأن كون القائم بنفسه هو المتحيز بالذات غير مسلّم بل هو المستغني عن محل يقوم به كما في شرح المواقف وإليه لوح بقوله: كان الله ولا مكان”. ا.هـ.

 

ثم قال: “السادس: ما أشار إليه بقوله فيه: “وأنه تعالى بدعى من أعلى” للإشارة إلى ما هو وصف للمدعوّ تعالى من نعوت الجلال وصفات الكبرياء والألوهية والاستغناء “لا من أسفل، لأن الأسفل” أي الإشارة إليه “ليس من صفات الربوبية والألوهية” والكبرياء والفوقية بالاستيلاء “في شيء”. فأشار إلى الجواب بأن رفع الأيدي عند الدعاء إلى جهة السماء ليس لكونه تعالى فوق السموات العلى بل لكونهما قبلة الدعاء، إذ منها يتوقع الخيرات ويستنزل البركات بقوله تعالى: {وفي السماءِ رِزقُكُم وما تُوعَدونَ} [سورة الذاريات] مع الإشارة إلى اتصافه تعالى بنعوت الجلال وصفات الكبرياء، وكونه تعالى فوق عباده بالقهر والاستيلاء. وإلى الجواب بمنع حمل ما ورد في الآيات والأحاديث على الاستقرار والتمكن، ومنع رفع الايدي لاعتقاده بل كل ذلم بالمعنى الذي ذكرنا ههنا وهو الذي لا ينافي وصف الكبرياء، ولا يتطرق إليه سمات الحدوث والفناء كما أشار إليه بقوله فيه “وعليه” أي يخرّج على أنه يدعى من أعلى، ويوصف بنعوت الجلال وصفات الكبرياء “ما روي في الحديث أن رجلا” وهو عمرو بن الشريد كما رواه أبو هريرة، وعبد الله بن رواحة كما بيّنه الإمام في مسنده بتخريج الحارثي وطلحة والبلخي والخوارزمي “أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأمة سوداء فقال: وجب عليّ عتق رقبة مؤمنة” قال إن أمي هلكت وأمرت أن أعتق عنها رقبة مؤمنة، ولا أملك إلا هذه وهي جارية سوداء أعجمية لا تدري ما الصلاة أفتجزيني هذه؟ عما لزم بالوصية كما في مصنف الحافظ عبد الرزاق، وليس في الروايات الصحيحة أنها كانت خرساء كما قيل “فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أمؤمنة أنت؟ قال: نعم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: “أين الله؟” سائلاً عن المنزلة والعلوّ على العباد علوّ القهر والغلبة، ومشيرًا أنه إذا دعاه العباد استقبلوا السماء دون ظاهره من الجهة، لكن لما كان التنزيه عن الجهة مما يقصر عنه عقول العامة فضلاً عن النساء حتى يكاد يجزم بنفي ما ليس في الجهة، كان الاقرب إلى إصلاحهم والأليق بدعوتهم إلى الحق ما يكون ظاهرًا في الجهة كما في شرح المقاصد، “فأشارت إلى السماء” إشارة إلى أعلى المنازل، كما يقال: فلان في السماء أي رفيع القدر جدًا كما في التقديس للرازي “فقال: أعتقها فإنها مؤمنة” ا.هـ.

 

ثم قال: “فأشار إلى الجواب بأن السؤال والتقرير لا يدلان على المكان بالجهة لمنع البراهين اليقينية عن حقيقة الأينية” ا.هـ.

 

ثم قال البياضي [11]: “الرابعة: أنه عليه الصلاة والسلام أراد امتحانها، هل تقرّ بأن الخالق الفعال المتعالي هو الله الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء، كما دل السؤال والتقرير كما في شرح مسلم للنووي، وإليه أشار بترتيب التخريج على أنه يدعى من أعلى لا من أسفل.

 

الخامسة: أنها كانت أعجمية لا تقدر أن تفصح عما في ضميرها من اعتقاد التوحيد بالعبارة فتعرف بالإشارة أن معبودها إله السماء، فإنهم كانوا يسمون الله إله السماء كما دل السؤال، والاكتفاء بتلك الإشارة كما في الكفاية لنور الدين البخاري” ا.هـ.

 

ثم قال البياضي: “فقال فيه “فمن قال لا أعرف ربي أفي السماء أم في الأرض فهو كافر” لكونه قائلاً باختصاص البارئ بجهة وحيز، وكل ما هو مختص بالجهة والحيز فإنه محتاج محدث بالضرورة، فهو قول بالنقص الصريح في حقه تعالى “كذا من قال: إنه على العرش ولا أدري العرش أفي السماء أم في الأرض” لاستلزامه القول باختصاصه تعالى بالجهة والحيز والنقص الصريح في شأنه، سيما في القول بالكون في الأرض ونفى العلوّ عنه تعالى بل نفي ذات الإله المنزه عن التحيز ومشابهة الأشياء” ا.هـ.

 

ثم قال البياضي: “الثانية: إكفار من أطلق التشبيه والتحيز، وإليه أشار بالحكم المذكور لمن أطلقه، واختاره الإمام الأشعري فقال في النوادر: من اعتقد أن الله جسم فهو غير عارف بربه وإنه كافر به، كما في شرح الإرشاد لأبي قاسم الأنصاري، وفي الخلاصة أن المشبّه إذا قال: له تعالى يد ورجل كما للعباد فهو كافر” ا.هـ.

 

ثم قال: “الرابعة: الرد على من أنكر إكفار المشبه مطلقًا ذهابًا إلى أن القائل بأنه جسم غالط فيه غير كافر، لأنه لا يطرد قوله بموجبه كما اختاره الباقلاني كما في شرح الإرشاد، واختاره الآمدي في الابكار، فقال في خاتمته: إنما يلزم التكفير أن لو قال إنه جسم كالأجسام وليس كذلك بل ناقض كلامه في فصل التنزيه منه ومن المنائح حيث قال فيه: ومن وصفه تعالى بكونه جسمًا، منهم من قال إنه جسم أي موجود لا كالأجسام، كبعض الكرامية، ومنهم من قال إنه على صورة شاب أمرد، ومنهم من قال على صورة شيخ أشمط، وكل ذلك كفر وجهل بالرب ونسبة للنقص الصريح إليه، تعالى عن ذلك علوًا كبيرًَا” انتهى كلام البياضي.

 

قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري [12] ما نصه: “فمعتقد سلف الأئمة وعلماء السنة من الخلف أن الله منزه عن الحركة والتحول والحلول، ليس كمثله شيء” ا.هـ.

 

وقال الإمام أبو القاسم الأنصاري النيسابوري شارح كتاب الإرشاد لإمام الحرمين [13] بعد كلام في الاستدلال على نفي التحيز في الجهة عن الله تعالى ما نصه: “ثم نقول سبيل التوصل إلى درك المعلومات الأدلة دون الأوهام، ورُب أمر يتوصل العقل إلى ثبوته مع تقاعد الوهم عنه، وكيف يدرك العقل موجودًا يحاذي العرش مع استحالة أن يكون مثل العرش في القدر أو دونه أو أكبر منه، وهذا حكم كل مختص بجهة. ثم نقول الجوهر الفرد [14] لا يتصور في الوهم وهو معقول بالدليل، وكذلك الوقت الواحد والأزل والأبد، وكذلك الروح عند من يقول إنه جسم، ومن أراد تصوير الأرض والسماء مثلاً في نفسه فلا يتصور له إلا بعضها، وكذلك تصوير ما لا نهاية له من معلومات الله تعالى ومقدوراته، فإذا زالت الأوهام عن كثير من الموجودات فكيف يُطلب بها القديم الذي لا تشبهه المخلوقات فهو سبحانه لا يتصور في الوهم فإنه لا يتصور إلا صورة ولا يُتَقدَّر إلا مُقدَّر، قال الله تعالى: {ليس كمثله شيء} ومن لا مثل له لا يتمثل في الوهم، فمن عرفه عرفه بنعت جلاله بأدلة العقول وهي الأفعال الدالة عليه وعلى صفاته، وقد قيل في قوله تعالى: {وأنَّ إلى ربِّكَ المُنتَهى}: إليه انتهى فكر من تفكر هذا قول أبي بن كعب وعبد الرحمن بن أنعُم، وروى أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: “لا فكرة في الرب” وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا ذكر الله تعالى فانتهوا”، وقال: “تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق”.

 

فإذا قيل كيف يعقل موجود قائم بالنفس ليس بداخل العالم ولا خارج منه. قلنا: عرفتم استحالة ذلك ضرورة أم دلالة، وقد أوضحنا معنى مباينته بالنفس، وهكذا الجواب عن قولهم خلق الله العالم في نفسه أم مباينًا عنه. قلنا: خلقه على مقدار نفسه أو أكبر منه أو أصغر أو فوق نفسه أو تحته، ثم نقول: حروف الظروف إنما تستعمل في الأجرام المحدودة [15] وكذلك الدخول والخروج من هذا القبيل وكذلك المماسة والمباينة، وقد أجبنا عن المباينة. فإن قالوا: كيف يرى بالأبصار من لا يتحيز ولا يقوم بالمتحيز. قلنا: الرؤية عندنا لا تقتضي جهة ولا مقابلة وإنما تقتضي تعيين المرئي، وبها يتميز عن العلم فإن العلم يتعلق بالمعدوم وبالمعلوم على الجملة تقديرًا، وكذلك لا يقتضي اتصال شعاع بالمرئي فهي كالعلم أو في معناه. فإن قيل: ألستم تقولون الإدراك يقتضي نفس المدرّك. قلنا: لا يقتضى تعينه ولا تحديده. فإن قالوا: كيف يُدرك وجود الإبه سبحانه. قلنا: لا كيفية للأزلي ولا حيث له وكذلك لا كيفية لصفاته، ولا سبيل لنا اليوم إلى الإخبار عن كيفية إدراكه ولا إلى العلم بكيفية إدراكه وكما أن الأكمه الذي لا يبصر الألوان إذا سئل عن الميْز بين السواد والبياض والإخبار عن كيفيتهما فلا جواب له، كذلك نعلم أن من لا جهة له لا يشار إليه بالجهة. فإن قالوا: من أبصر شيئًا يمكنه التمييز بين رؤيته لنفسه وبين رؤيته ما يراه، فإذا رأيتم الإله سبحانه كيف تميزون بين المرئيين، قلنا: من لا جهة له لا يشار إليه بالجهة ومن لا مثل له لا إيضاح له بالمثال، ومن لا أشكال له فلا أشكال فيه. ثم نقول لهم: أنتم إذا رأيتم الإله كيف تميزون بينه وبين العرش وهو دونه سبحانه بالرؤية، أتميزون بينهما بالشكل والصورة أم باللون والهيئة، ومن أصلكم أن المرئي شرطه أن يكون في مقابلة الرائي، وكيف يرى القديم سبحانه نفسه، وكيف يرى الكائنات مع استتار بعضها ببعض فلا يرى على هذا الاصل بطون الأشياء، وهذا خلاف ما عليه المسلمون، وإذا كان العرش دونه فلا يحجبه عنا حالة الرؤية، قال الاستاذ أبو إسحاق: من رأى الله تعالى فلا يرى معه غيره –أي في حال رؤيته للحق- فاندفع السؤال على هذا الجواب” ا.هـ.

 

ثم قال ما نصه: “فصل في نفي الحد والنهاية

 

اعلم أن القديم سبحانه لا يتناهى في ذاته على معنى نفي الجهة والحد عنه، ولا يتناهى في وجوده على معنى نفي الأولية عنه فإنه أزلي أبدي صمدي، وكذلك صفات ذاته لا تتناهى في ذاتها ووجودها ومتعلقاتها إن كان لها تعلق، ومعنى قولنا: لا تتناهى في الذات قيامها بذات لا نهاية له ولا حد ولا منقطع ولا حيث، وقولنا لا تتناهى في الوجود إشارة إلى أزليتها ووجوب بقائها وأنها متعلقة بما لا يتناهى كالمعلومات والمقدورات والمُخبرات”. ثم قال: “وأما الجوهر فهو متناهٍ في الوجود والذات لأنه لا يشغل إلا حيزًا له حكم النهاية وهو حادث له مفتتح ويجوز عدمه. والعرض متناه في الذات من حيث الحكم على معنى أنه لا ينبسط على محلين، ومتناهٍ في الوجود على معنى أنه لا يبقى زمانين، ويتناهى في تعلقه فإنه لا يتعلق بأكثر من واحد.

 

أما المجسمة فإنهم أثبتوا للقديم الحد والنهاية، فمنهم من أثبت له النهايات من ست جهات، ومنهم من أثبتها من جهة وادة وهي جهة تحت، ومنهم من لا يطلق عليه النهاية. واختلفوا في لفظ المحود فمنهم من أثبته ومنهم من منعه وأثبت الحد، وقد بيّنا أن إثبات النهاية من جهة واحدة توجب إثباتها من جميع الجهات ولأن النهاية والانقطاع من الجهة الواحدة تقدح في العظمة، بدليل أنه لو لم يتناه لكان أعظم مما كان، فلما تناهى فقد صغُر، ويجب نفي الصغر عنه كما وجب إثبات العظمة له، يوضح ما قلناه أنهم قالوا أنهم قالوا إنما منعنا كونه وسط العالم لأنه يوجب اتصافه بالصغر، فإثبات النهاية من جانب يفضي إلى النهاية من جميع الجوانب، فقد تحقق إذًا بنفي النهاية والحد عنه استحالة الاتصال والانفصال والمحاذاة عليه لاستحالة الحجمية والجُثة عليه، بل هو عظيم الذات لانتفاء النهايات والصغر عنه لا لجسامة ولا لصورة وشبح”.

 

ثم قال: “فصل في معنى العظمة والعلو والكبرياء والفوقية: اجمع المسلمون على أن الله تعالى عظيم وأعظم من كل عظيم، ومعنى العظمة والعلو والعزة والرفعة، والفوقية واحد وهو استحقاق نعوت الجلال وصفات التعالي على وصف الكمال وذلك تقدسه عن مشابهة المخلوقين، وتنزهه عن سمات المحدثين وعن الحاجة والنقص، واتصافه بصفات الإلهية كالقدرة الشاملة للمقدورات، والإرادة النافذة في المرادات، والعلم المحيط بجميع المعلومات، والجو البسيط، والرحمة الواسعة، والنعمة السابغة، والسمع والبصر والقول القديم، والطَّوْل العميم والوجه واليد والبقاء والمجد” ا.هـ.

 

وقال الآمدي في غاية المرام [16] ما نصه: “فالواجب أن يقال: إنه إنْ أريد بالاتصال والانفصال قيام أحدهما بذات الآخر وامتناع القيام فلا محالة أن البارئ والعالم كا واحد منهما منفصل عن الآخر بهذا الاعتبار، وهو مما لا يوجب كون كل واحد منهما في جهة من الآخر، مع امتناع قبولية كل واحد منهما لها أو امتناع قبولية أحدهما، ومع امتناع تلك القبولية فلا تلزم الجهة. وإن أريد بالاتصال ما يلازمه الاتحاد في الحيز والجهة، وبالانفصال ما يلازمه الاختلاف فيهما ووقوع العبد والامتداد بينهما، فذلك إنما يلزم على البارئ تعالى أن لو كان قابلاً للتحيز والجهة، وإلا فإن لم يكن قابلاً فلا مانع من خلوه عنهما معًا. فإن راموا إثبات الجهة بالانفصال والاتصال، والخصم لا يسلم ذلك إلا فيما هو قابل للجهة، أفضى ذلك إلى الدور، ولا محيص عنه. وليس لهذا مال إلا ما لو قال قائل: وجود شيء ليس هو عالم ولا جاهل محال، فيقال: إنما هو محال فيما هو قابل لهما، وكذا في كل ما هو قابل لأحد نقيضين، فإن خلوه عنهما محال، أما وجود ما لا يقبل ولا لواحد منهما فخلوه عنهما ليس بمحال. وذلك كما في الحجر وغيره من الجمادات، وبهذا يندفع ما ذكروه من الخيال الآخر أيضًا.

 

وعدم التخيل لموجود هو لا داخل العالم ولا خارجه على نحو تخيل الصور الجزئية –مع كونه معلومًا بالبرهان وواجبًا التصديق به غير مضر-، إذ ليس ما وجب التصديق به بالبرهان يكون حاصلاً في الخيال، وإلا لما صح القول بوجود الصفات الغير المحسوسة كالعلم والقدرة والإرادة ونحوها لعدم حصولها في الخيال، وامتناع وقوعها في المثال، وما قيل من أن حيث الصفات لا يكون إلا حيث الذات فذلك إنما هو لِما كان من الصفات له حيث وجهة، إذ يستحيل أن تكون الصفات في جهة وحيث إلا وهي في جهة ما قامت به من الذات، ولا يتصور وقوع الجهة للصفات دون الذات، وأما ما لا حيث له من الصفات فلا جهة له، وعند ذلك فلزوم الجهة والحيث لذات واجب الوجود بالنظر إلى حيث صفاته مع امتناع قبولها للحيث محال” ا.هـ.

 

وقال الآمدي في أبكار الافكار [17] ما نصه: “والجواب عن الشبهة الأولى أن يقال: إن أريد بالاتصال والانفصال قيام أحدهما بالآخر وامتناع القيام به فالبارئ تعالى بهذا الاعتبار منفصل عن العالم، ولكن ذلك مما لا يوجب كون كل واحد منهما في جهة من الآخر إلا أن يكون الرب تعالى قابلاً للكون في الجهة وهو محل النزاع. وإن أريد بالاتصال ما يلازمه الاتحاد في الجهة والحيز، وبالانفصال ما يلازمه الاختلاف في الجهة والحيز فذلك إنما يتم ويلزم أن لو كان البارئ تعالى قابلاً للحيز والجهة، وإلا فلا مانع من خلوه عنهما معًا، فإن راموا إثبات الجهة بالانفصال والاتصال بهذا الاعتبار والخصم لا يسلمه إلا فيما هو قابل للجهة والحيز كان دورًا ودعوى البديهية في ذلك ممتنع، فإن البديهي لا يخالف فيه أكثر العقلاء وأكثر العقلاء مخالفون في نفي الجهة عن الله تعالى. وإن اكتفى في ذلك بمجرد الدعوى فقد لا تؤمن المعارضة بمثله في طرف النقيض، وعن الشبة الثانية فأجيب بأنه لا داخل العالم ولا خارجًا عنه فإن ذلك إنما هو من لوازم الجهة والحيز فما لا يكون في جهة ولا حيز فلا يكون متصفًا به، والقول بأن ذلك غير معقول إنما يصح فيما كان من ذوات الجهة والحيز أما ما ليس من ذوات الجهة والحيز فالقول بأنه إما داخل العالم وإما خراج عنه فلا يكون معقولاً، وعن الشبهة الثالثة منع أنه لا معنى للعالم بنفسه غير المتحيز بل العالم بنفسه هو المستغني عن محل يقوّمه والبارئ تعالى كذلك وذلك لا يلزم منه كونه في الجهة، وعن الرابعة يمنع أنه لا معنى لقيام الصفة بمحلها إلا كونها موجودة في الحيز تبعًا لمحلها فيه ومن المعلوم أن ذلك غير ضروري ولا دليل عليه. وأما الشبه النقلية فمن باب الظواهر الظنية فلا تقع في مقابلة الادلة العقلية اليقينية كيف وأنه مهما تعارض دليلان فالجمع بينهما أولى من العمل بأحدهما وتعطيل الآخر وقد أمكن الجمع بتأويل ما ذكروه من الظواهر على وجه موافق للدليل العقلي الدال على نفي الجهة والحيز” ا.هـ.

 

 

الهوامش:

 

[1] الرسالة التدمرية [ص/46].

[2] رواه الطيالسي بنحوه في مسنده [ص/79].

[3] دفع شبه التشبيه [ص/40].

[4] تفسير الاسماء والصفات [ق/151]، محطوط.

[5] الدر الثمين [ص/24-25].

[6] روضة الطالبين [10/64].

[7] كتاب الإعلام بقواطع الإسلام بهامش الزواجر [2/43-44].

[8] تبصرة الأدلة [1/176-177].

[9] تبصرة الأدلة [1/177].

[10] إشارات المرام [ص/197-198].

[11] إشارات المرام [ص/199-200].

[12] فتح الباري [7/124].

[13] شرح الإرشاد [ق/58-59]، مخطوط.

[14] الجوهر الفرد هو الجزء الذي لا يتجزأ لتناهيه في القلة وسمي جوهرًا لأن الجسم يتركب من جوهرين فردين فأكثر.

[15] أي على وجه الحقيقة، إن استُعملت على وجه المجاز فإنها تستعمل على المجاز كقوله تعالى: {أفي الله شك}، أو يكون مراد المؤلف أن حروف الظروف لا تستعمل على معنى الظرفية في حق الله تعالى إنما تستعمل على هذا المعنى في حق الاجرام.

[16] غاية المرام في علم الكلام [ص/199-200].

[17] أبكار الافكار [1/304-305]، مخطوط.