رجو بيان فساد الاستدلال بحديث الجارية على ‏انحصار الله في السماء والعياذ بالله. ‏

Arabic Text By Feb 19, 2017

سؤال: نرجو بيان فساد الاستدلال بحديث الجارية على ‏انحصار الله في السماء والعياذ بالله. ‏

الجواب: الاعتقاد الصحيح هو أن الله منزّه عن المكان. ‏تنزيه الله تعالى عن المكان شيء يقبله العقل ويقبله ‏الشرع. العقل السليم يحكم بأن الله خالق المكان لأن الله ‏خالق كلّ شيء، وبأن الله لا يحتاج إلى المكان لأن الله لا ‏يحتاج إلى شيء، فلذلك علماء أهل السنة كأبي حنيفة ‏والشافعي والأشعري والماتريدي والطحاوي والبيهقي ‏والقاضي عياض والغزالي والرازي وابن حجر شارح البخاري ‏والزبيدي شارح الإحياء وابن عساكر وغيرهم ممن لا ‏يحصيهم إلا الله، كلّ هؤلاء وغيرهم قالوا إن الله موجود ‏بلا جهة ولا مكان.‏

أما من الشرع فدليل ذلك قول الله تعالى في سورة الشورى: “ليس كمثله ‏شىء”، دلّت آية التنزيه العظمى على أن الله منزه عن ‏المكان لأن المكان والحجم والكيفية والشكل من صفات ‏المخلوق وليست من صفات الخالق سبحانه.‏

ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: “كان الله ولم يكن شيء غيرُه” رواه ‏البخاري وغيره، وهذا معناه أن الله كان موجوداً قبل ‏المكان بلا مكان، هكذا قال الإمام أبو حنيفة رضي الله ‏عنه، وعلى هذا إجماع المسلمين كما قال الإمام الطحاوي ‏في عقيدته: “ولا تحويه الجهاتُ الستُّ كسائر المبتدَعات” ‏أي المخلوقات.‏

وقال الإمام علي رضي الله عنه: “كان الله ولا مكان وهو ‏الآن على ما كان” هذه الكلمة النفيسة نقلها الإمام الأصولي ‏عبد القاهر البغدادي المتوفى سنة 429 للهجرة، وكان من ‏مشاهير أهل العلم ذكرها في كتاب الفرق بين الفرق.‏

أما استدلال بعض الناس بحديث مسلم وفيه لفظ “أين الله” ‏فالجواب أن هذا ليس في مرتبة الأحاديث التي يصحّ ‏الاستدلال بها في العقيدة للاضطراب في ألفاظه ما بين ‏قالت الجارية “في السماء” وفي رواية أشارت إلى السماء ‏وهناك روايات أخرى تمنع هذه الرواية من أن تكون في ‏مرتبة ما يُستدل به في العقيدة، وإلى ذلك أشار علماء كبار ‏أمثال البيهقي في السنن الكبرى وابن حجر العسقلاني في ‏تلخيص الحبير، وهما من كبار حفاظ الحديث.‏

ثم على فرض التسليم بصحتها فقد ذكر القرطبي في ‏شرحه على مسلم ما نصه: “تنبيه: ثم اعلم أنه لا خلاف ‏بين المسلمين قاطبة، مُحدّثهم وفقيههم ومتكلمهم ومقلدهم ‏ونظّارهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى كقوله: ‏‏”ءأمنتم من في السماء” ليست على ظاهرها وأنها متأوَّلة ‏عند جميعهم”. ثم يردّ القرطبي على المشبهة مبيناً مذهب ‏أهل السنة قائلاً إن “من يعتقد نفي الجهة في حق الله تعالى أحقّ بإزالة ذلك الظاهر وإجلال الله تعالى عنه، وقد ‏حصل من هذا الأصل المحقق أن قول الجارية ليس على ‏ظاهره باتفاق المسلمين، وإن من حمله على ظاهره فهو ‏ضالّ من الضالين” يعني أنه كافر من جملة الكافرين، والقرطبي توفي سنة ‏‏656 هـ. ‏

وقريب من كلام القرطبي في ذلك قال الحافظ النووي في شرح مسلم. وقال ‏السيوطي في تنوير الحوالك ما نصه: “قال‎ ‎الباجي:‏‎ ‎لعلها ‏تريد وصفه بالعلو، وبذلك يوصف من كان شأنه العلو، ‏يقال مكان فلان في السماء، يعني علو حاله ورفعته ‏وشرفه”. فهذه الروايات وما أشبهها لا يجوز حملها على ‏ظواهرها لأن الله منزه عن الانحصار في السماء أو في ‏جهة العرش سبحانه وهو خالق ذلك كله. ‏

ثم من المعلوم أن السماء مسكن الملائكة فكيف يعتقد ‏المؤمن أن الله ينحصر في السماء!!. ‏الله منزه عن الانحصار في مكان واحد وكذلك عن الانتشار في كل الأمكنة، الله موجود بلا مكان.

فإن قال المشبّه إن كلمة في السماء معناه على السماء ‏‏(يريد أن الله بذاته فوق العرش)، فقد أخرج اللفظ عن ‏ظاهره لأنه هو كذلك لا يُجوّز ظاهره من الانحصار في السماء على الله. وتنزيه الله عن هذا ‏الظاهر هو ما يقول به أهل السنة كذلك، ولكنهم يضيفون تنزيه ‏الله عن الانحصار في غير السماء كجهة العرش، للدليل العقلي الذي لا ‏يُجيز انحصار الله سبحانه في السماء.‏

ثم من قال بظاهر الحديث ورفض تأويله ماذا يفعل بقول الله تعالى: “وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي ‏الأَرضِ إِلَهٌ”، فهذه الآية من سورة الزخرف دليل قويّ ‏لأهل السنة في تنزيه الله عن التحيز في السماء كما أنه ‏سبحانه منزّه عن التحيز في الأرض، وهو سبحانه معبود ‏المؤمنين به من أهل السماء وهم الملائكة، ومن أهل ‏الأرض ممّن سواهم من مؤمني الإنس والجنّ.‏

ونختم بما قال الإمام الطحاوي رحمه الله: “ومن وصف الله ‏بمعنى من معاني البشر فقد كفر” والمكان والجلوس والكيفية من صفات ‏البشر وليست من صفات ربّ البشر. ‏