إظهار العقيدة السنية شرح العقيدة الطحاوية مقدمة

Arabic Text By Jul 13, 2015

إظهار العقيدة السنية شرح العقيدة الطحاوية مقدمة

قال المحدث الفقيه الشيخ عبد الله الهرري:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل المرسلين، وعلى ءاله وأصحابه الطيبين.

مقدمة نافعة

ليعلم أن أهل السنة هم جمهور الأمة المحمدية وهم الصحابة ومن تبعهم في المعتقد أي أصول الاعتقاد، وهي الأمور الستة المذكورة في حديث جبريل [1] الذي قال فيه الرسول: “الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره”. وأفضل هؤلاء أهل القرون الثلاثة المرادون بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم [2]: “خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم” والقرن معناه مائة سنة كما رجح ذلك الحافظ أبي القاسم بن عساكر وغيره، وهم المرادون أيضًا بحديث الترمذي [3] وغيره: “أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم” وفيه قوله: “عليهم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة” صححه الحاكم وقال الترمذي: حسن صحيح، وهم المرادون أيضًا بالجماعة الواردة فيما رواه أبو داود [4] من حديث معاوية: “وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة”. والجماعة هم السواد الأعظم ليس معناه صلاة الجماعة، كما يوضح ذلك حديث زيد بن ثابت ان الرسول صلى الله عليه وسلم [5] قال: “ثلاث لا يغل عليهم قلب المؤمن: إخلاص العمل، والنصيحة لولي الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تكون من وراءهم”. قال الحافظ ابن حجر: حديث حسن.

ثم حدث بعد مائتين وستين سنة انتشار بدعة المعتزلة وغيرهم فقيّض الله تعالى إمامين جليلين أبا الحسن الأشعري وأبا منصور الماتريدي رضي الله عنهما فقاما بإيضاح عقيدة أهل السنة التي كان عليها الصحابة ومن تبعهم بإيراد أدلة نقلية وعقلية مع رد شبه المعتزلة وهم رق عديدة بلغ عددهم عشرين فرقة، فقاما بالرد على كل هذه الفرق أتم القيام برد شبههم وإبطالها فنسب إليهما أهل السنة، فصار يقال لأهل السنة أشعريون وماتريديون.

فإن قيل إن بين الاشاعرة والماتريدية اختلافًا في مسائل في العقيدة فكيف يكون كل منهما الفرقة التي قال الرسول: “فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة”. فالجواب: أنه ليس بينهما اختلاف في اصول العقيدة إنما الخلاف بينهما في بعض فصول العقيدة وفروعها، وهذا لا يقدح في كونهما الفرقة الناجية، فإن هذا الخلاف كالخلاف الذي حصل بين الصحابة في رؤية النبي ربه ليلة المعراج، فقد نفتها عائشة وابن مسعود وأثبتها عبد الله بن عباس وأصحابه من التابعين وأبو ذر الغفاري، مع أن الصحابة متفقون في أصول العقيدة. ومن هذه الفرقة يكون المجدد الذي أخبر الرسول أنه يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”. رواه أبو داود وغيره [6].

فيجب الاعتناء بمعرفة عقيدة الفرقة الناجية الذين هم السواد الأعظم، وأفضل العلوم علم العقيدة لأنه يبين أصل العقيدة التي هي أصل الدين، وهذا العلم سماه أبو حنيفة الفقه الأكبر. فيا طلاب الحق لا يُهَوِّلَنَّكم قدح المشبهة المجسمة في هذا العلم بقولهم إنه علم الكلام المذموم لدى السلف، ولم يدروا أن علم الكلام المذوم هو ما ألفه المعتزلة على اختلاف فرقهم والمشبهة على اختلاف فرقهم من كرامية وغيرها فإنهم قد افترقوا إلأى عدة فرق بيّنها من ألفوا في بيان الفرق كالإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي.

ومن أشهر من ألف في هذا العلم هذه العقيدة المشهورة بالعقيدة الطحاوية التي مؤلفها من السلف، وقد نص على أن ما يذكره في هذه العقيدة هو ما عليه أهل السنة يعني الصحابة ومن بعدهم إلى عصره عامة، وخص ذكر الإمام أبي حنيفة وصاحبيه القاضي أبي يوسف ومحمد بن الحسن بتسميتهم بأسمائهم.

ثم بعد أن بيّنا أن الأشاعرة والماتريدية فرقة واحدة في العقيدة يصح لنا أن نقول: الأشعري ماتريدي والماتريدي أشعري.

وكان الشافعي أتقن هذا العلم علم الكلام الذي لأهل السنة قبل أن يتقن علم الفقه، والدليل على ذلك ما ثبت عنه أنه جاءه حفص الفرد المعتزلي فناظره فقطعه الشافعي بالحجة في مسئلة خلق الكلام، فلما أصر حفص الفرد على قول القرءان مخلوق قال الشافعي: “لقد كفرت بالله العظيم”، فقال حفص للربيع: أراد الشافعي ضرب عنقي، يعني أنه كفرني واستحل قتلي، وذلك لأنه ينفي الكلام عن الله تعالى إلا بمعنى أنه يخلق صوتًا في غيره ولا يعتقد أن لله كلامًا ذاتيًا نفسانيًا ليس بحرف ولا صوت، عُبِّر عنه بالألفاظ المنزلة على أنبياء الله كما يُعبر عن ذات الله بلفظ الجلالة الله بحيث يصح أن يقال لمن كتب لفظ الجلالة على لوح أو جدار “ما هذا؟” فيجيب: الله، أي أن هذا الشكل المركب من الحروف عبارة عن الذات المقدس ولا يُتصور أنه يعني أن هذه الحروف عين الذات المقدس المعبود، والله الموفق للصواب ونسأله أن يرزقنا حسن المآب إنه رحيم توَّاب.

ومما يشهد لكون هذا ليس من علم الكلام المذموم للشافعي وغيره أن أبا حنيفة ألف في علم الكلام خمس رسائل وكان يذهب من بغداد إلى البصرة لمناظرة المعتزلة والمشبهة والملاحدة حتى إنه تردد إليهم نيّفًا وعشرين مرة، وتلك الرسائل الخمسة وإن طعن بعض الناس في نسبتها إلى الإمام لكن الحافظ مرتضى الزبيدي قال: “إنها ثابتة بالإسناد الصحيح”.

ثم إن العلم بالله تعالى وصفاته أجلّ العلوم وأعلاها وأوجبها وأولاها، وهو أصل كل علم ومنشأ كل سعادة، ولهذا سمي علم الأصول. وقد خصّ النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بالترقي في هذا العلم فقال: “أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له” [7] –رواه البخاري- فكان هذا من أهم العلوم تحصيلاً وأحقها تبجيلاً وتعظيمًا، قال تعالى: {فاعلَمْ أنَّهُ لا إلهَ إلا اللهُ واستغفِرْ لذنبِكَ} [سورة محمد]، قدم الأمر بمعرفة التوحيد على الأمر بالاستغفار، والسبب فيه أن معرفة التوحيد إشارة إلى علم الأصول والاشتغال بالاستغفار إشارة إلى علم الفروع، لأنه ما لم يعلم وجود الصانع يمتنع الاشتغال بطاعته. وقد حث الله تعالى عباده في كثير من ءايات القرءان على النظر في ملكوته لمعرفة جبروته فقال: {أوَلَمْ يَنظُروا في مَلَكوتِ السَّمواتِ والأرضِ} [سورة الأعراف] وقال تعالى: {سَنُريهم ءاياتِنا في الأفاقِ وفي أنفُسِهِم حتى يَتَبَيَّنَ لهُم أنَّهُ الحقُّ} [سورة فصلت].

فإن قيل: لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم علّم أحدًا من أصحابه هذا العلم، ولا عن أحد من أصحابه أنه تعلم أو علم غيره، وإنما حدث هذا العلم بعد انقراضهم بزمان، فلو كان هذا العلم مهمًا في الدين لكان أولى به الصحابة والتابعون.

قلنا: إن عني به أنهم لم يعلموا ذات الله وصفاته وتوحيده وتنزيهه وحقية رسوله وصحة معجزاته بدلالة العقل فأقروا بذلك تقليدًا، فهو بعيد من القول شنيع من الكلام، وقد رد الله عز وجل في كتابه على من قلد ءاباءه في عبادة الأصنام بقوله: {إنَّا وَجَدنا ءاباءَنا على أمَّةٍ} [سورة الزخرف] أي على دين {وإنَّا على ءاثارِهم مُقتَدون} [سورة الزخرف]. وقد حاجّ النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا من المشركين واليهود والنصارى وذلك مما لا يخفى.

وإن أريد به أنهم لم يتلفظوا بهذه العبارات المصطلحة عند أهل هذه الصناعة نحو الجوهر والعرض والجائز والمحال والمحدث والقدم، فهذا مُسلَّم، ولكنا نعارض بمثله في سائر العلوم، فإنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه التلفظ بالناسخ والمنسوخ، والمجمل والمتشابه وغيره كما هو مستعمل عند أهل التفسير، ولا بالقياس والاستحسان، والمعارضة والمناقضة والعلة وغيرها كما هو المستعمل عند الفقهاء، ولا بالجرح والتعديل، والآحاد والمشهور والمتواتر والصحيح والغريب، وغير ذلك كما هو المستعمل عند أهل الحديث، فهل لقائل أن يقول يجب رفض هذه العلوم لهذه العلة.

فإن قيل قال ابن عباس: “تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق” فإنه منهي عنه.

قلنا: إنه ورد النهي عن التفكير في الخالق مع الأمر بالتفكر في الخلق، فإنه يوجب النظر والتأمل في ملكوت السموات والأرض ليستدل بذلك على الصانع أنه لا يشبه شيئًا من خلقه، ومن لم يعرف الخالق من المخلوق كيف يعمل بهذا الأثر.

وموضوع هذا العلم علم التوحيد النظر في الخلق لمعرفة الخالق، وقيل في تعريفه: إنه علم يتكلم فيه عن أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله وأحوال المخلوقين من الملائكة والأنبياء والأولياء والأئمة والمبدأ والمعاد، على قانون الإسلام لا على أصول الفلاسفة، فإنهم –أي الفلاسفة- تكلموا في حق الله وفي حق الملائكة وغير ذلك اعتمادًا على مجرد النظر والعقل، فجعلوا العقل أصلاً للدين فلا يقيدون بالتوفيق بين النظر العقلي وبين ما جاء عن الأنبياء.

أما علماء التوحيد فيتكلمون في ذلك من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن الله وعلى صحة ما جاء عن رسول الله، فعندهم العقل شاهد للدين وليس أصلاً للدين.

وإنما سمي هذا النوع من العلم بعلم الكلام لكثرة المخالفين فيه من المنتسبين إلى الإسلام، وطول الكلام من كل طائفة ليدافعوا عن اعتقاداتهم الفاسدة، وأما ما يروى من ذم علم الكلام عن الشافعي وغيره فالمراد به الكلام المذموم الذي يكون من أهل البدعة من معتزلة وأشباههم، فإن لهم مجادلات في ذلك ومؤلفات، ومن جملة ما للمعتزلة كتاب المغني.

وهذا الذي نحن بصدده كان الشافعي يتقنه، ذكر عنه الحافظ أفضل المحدثين بالشام في عصره ابن عساكر أنه قال: “أحكمنا ذاك قبل هذا”، وتكلم فيه مالك وغيره من أئمة السلف، وقال بعض العلماء في مدح علم الكلام الذي لأهل السنة شعرًا من البسيط:

عابَ الكلامَ أناسٌ لا عقولَ لهم ** وما عليهِ إذا عابوهُ من ضرر

ما ضرَّ شمسَ الضُّحى في الأفق طالعة ** أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر

قال الشيخ المحدث الحافظ الفقيه الحنفي شمس الدين محمد بن طولون في كتابه ذخائر العصر في تراجم نبلاء العصر [8] في ترجمة أحمد بن عبد الرزاق بن عبد الرحمن الراشدي ما نصه: “وسألني –يعني المترجم له- عن علم التوحيد وعلم الفقه أيهما أفضل؟ فقلت له ما قاله أبو منصور الماتريدي في عقيدته: إن الفقه في الدين وهو التوحيد أفضل من الفقه في العلم وهو الشرائع، وعن هذا قالوا طلب العلم فريضة على كل مسلم، أي علم الحال وهو أحكام الإيمان والإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان، وإن لم يقر باللسان مع الإمكان لا يكون مؤمنًا، كما إذا أقرّ ولم يصدق حتى مات لم يكن مؤمنًا لأن ترك البيان من غير عذر يدل على فوات التصديق، وكما لو صدق ولم يقرّ، وعند الكرامية الإقرار باللسان لا غير لقوله عليه السلام: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله” وهذا باطل لقوله تعالى: {قالوا ءامنَّا بأفواههم ولمْ تُؤمِن قلوبهم} [سورة المائدة]” ا.هـ.

الهوامش:

[1] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان: باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة وبيان النبي صلى الله عليه وسلم له، ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى.

[2] أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الفتن: باب ما جاء في القرن الثالث.

[3] أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الفتن: باب ما جاء في لزوم الجماعة، والحاكم في المستدرك [1/113-114].

[4] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب شرح السنة.

[5] أخرجه الترمذي في سننه: كتاب العلم: باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، وأحمد في مسنده [4/80 و82]، والحاكم في المستدرك [1/88].

[6] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الملاحم: باب ما يذكر في قرن المائة، والحاكم في المستدرك [4/522].

[7] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أعلمكم بالله”.

[8] ذخائر القصر في تراجم نبلاء العصر [ص/32].