تفسير سورة البقرة 2

Arabic Text By Aug 30, 2010

تفسير سورة البقرة 2

{ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } [البقرة : 158] أي بالطواف بهما مشعر بأنه ليس بركن.
ومن يطوع : حمزة وعلي أي يتطوع فأدغم التاء في الطاء { فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ } [البقرة : 158] مجاز على القليل كثيراً { عَلِيمٌ } بالأشياء صغيراً أو كبيراً.
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ } [البقرة : 174] من أحبار اليهود { مَآ أَنزَلْنَا } [طه : 2] في التوراة { مِنَ الْبَيِّنَـاتِ } [طه : 72] من الآيات الشاهدة على أمر محمد عليه السلام { وَالْهُدَى } الهداية إلى الإسلام بوصفه عليه السلام { مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّـاهُ } [البقرة : 159] أوضحناه { لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ } [البقرة : 159] في التوراة لم ندع فيه موضع إشكال فعمدوا إلى ذلك المبين فكتموه { أؤلئك يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّـاعِنُونَ } [البقرة : 159] الذين يتأتى منهم اللعن وهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين { إِلا الَّذِينَ تَابُوا } [آل عمران : 89] عن الكتمان وترك الإيمان { وَأَصْلَحُوا } ما أفسدوا من أحوالهم وتداركوا ما فرط منهم { وَبَيَّنُوا } وأظهروا ما كتموا { فَأُوالَـائكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } [البقرة : 160] أقبل توبتهم { إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوالَـائكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أؤلئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَـائكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } يعني الذين ماتوا من هؤلاء الكاتمين
140
ولم يتوبوا { أؤلئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَـائكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [البقرة : 161] ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتاً.
والمراد بالناس المؤمنون أو المؤمنون والكافرون إذ بعضهم يلعن بعضاً يوم القيامة قال الله تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } (الأعراف : 83).
جزء : 1 رقم الصفحة : 139
{ خَـالِدِينَ } حال من هم في عليهم { فِيهَآ } في اللعنة أو في النار إلا أنها أضمرت تفخيماً لشأنها وتهويلاً { لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ } [البقرة : 162] من الإنظار أي لا يمهلون أو لا ينتظرون ليعتذروا أو لا ينظر إليهم نظر رحمة { وَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } [البقرة : 163] فرد في ألوهيته لا شريك له فيها ولا يصح أن يسمى غير إلها { لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } [البقرة : 255] تقرير للوحدانية ينفي غيره وإثباته.
وموضع هو رفع لأنه بدل من موضع لا إله ولا يجوز النصب هنا لأن البدل يدل على أن الاعتماد على الثاني ، والمعنى في الآية على ذلك والنصب يدل على أن الاعتماد على الأول.
ورفع الرّحمن الرّحيم أي المولى لجميع النعم أصولها وفروعها ولا شيء سواه بهذه الصفة فما سواه إما نعمة وإما منعم عليه على أنه خبر مبتدأ ، أو على البدل من هو لا على الوصف لأن المضمر لا يوصف.
ولما عجب المشركون من إله واحد وطلبوا آية على ذلك نزل { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَاخْتِلَـافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [البقرة : 164] في اللون والطول والقصر وتعاقبهما في الذهاب والمجيء { وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ } [البقرة : 164] بالذي ينفعهم مما يحمل فيها أو بنفع الناس ومن في { وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ } [البقرة : 164] لابتداء الغاية وفي { مِن مَّآءٍ } [الطارق : 6] مطر لبيان الجنس لأن ما ينزل من السماء مطر وغيره.
ثم عطف على أنزل { فَأَحْيَا بِهِ } [البقرة : 164] بالماء { الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [الروم : 50] يبسها ثم عطف على فأحيا { وَبَثَّ } وفرق { فِيهَآ } في الأرض { مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } [لقمان : 10] هي كل ما
141

(1/97)


يدب { وَتَصْرِيفِ الرِّيَـاحِ } [الجاثية : 5] الريح : حمزة وعلي.
أي وتقليبها في مهابها قبولاً ودبوراً وجنوباً وشمالاً ، وفي أحوالها حارة وباردة وعاصفة ولينة وعقماً ولواقح.
وقيل : تارة بالرحمة وطوراً بالعذاب.
{ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ } [البقرة : 164] المذلل المنقاد لمشيئة الله تعالى فيمطر حيث شاء { بَيْنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ } [البقرة : 164] في الهواء { لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة : 164] ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون فيستدلون بهذه الأشياء على قدرة موجدها وحكمة مبدعها ووحدانية منشئها.
وفي الحديث ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 139
جزء : 1 رقم الصفحة : 142
ومن النّاس أي ومع هذا البرهان النير من الناس من يتّخذ من دون اللّه أنداداً } أمثالاً من الأصنام { يُحِبُّونَهُمْ } يعظمونهم ويخضعون لهم تعظيم المحبوب { كَحُبِّ اللَّهِ } [البقرة : 165] كتعظيم الله والخضوع له أي يحبون الأصنام كما يحبون الله يعني يسوون بينهم وبينه في محبتهم لأنهم كانوا يقرون بالله ويتقربون إليه.
وقيل : يحبونهم كحب المؤمنين الله { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ } [البقرة : 165] من المشركين لآلهتهم لأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره بحال ، والمشركون يعدلون عن أندادهم إلى الله عند الشدائد فيفزعون إليه ويخضعون { وَلَوْ يَرَى } [البقرة : 165] ترى : نافع وشامي على خطاب الرسول أو كل مخاطب ، أي ولو ترى ذلك لرأيت أمراً عظيماً { الَّذِينَ ظَلَمُوا } [البقرة : 165] إشارة إلى متخذي الأنداد { إِذْ يَرَوْنَ } [البقرة : 165] يرون : شامي { الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } [البقرة : 165] حال { وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } [البقرة : 165] شديد عذابه أي ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أن القدرة كلها لله تعالى على كل شيء من الثواب والعقاب دون أندادهم ، ويعلمون شدة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ، فحذف الجواب لأن ” لو ” إذا جاء فيما يشوق إليه أو يخوف منه قلما يوصل بجواب ليذهب القلب فيه كل مذهب.
و ” لو ” يليها الماضي.
وكذا إذا وضعها لتدل على الماضي ، وإنما دخلتا على المستقبل هنا لأن إخبار الله تعالى عن المستقبل باعتبار صدقة كالماضي
142
{ إِذْ تَبَرَّأَ } [البقرة : 166] مدغمة الذال في التاء حيث وقعت : عراقي غير عاصم.
وهو بدل من إذ يرون العذاب .
{ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } [البقرة : 167] أي المتبعون وهم الرؤساء { مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } [البقرة : 166] من الأتباع { وَرَأَوُا الْعَذَابَ } [القصص : 64] الواو فيه للحال أي تبرأوا في حال رؤيتهم العذاب { وَتَقَطَّعَتْ }
جزء : 1 رقم الصفحة : 142

(1/98)


عطف على تبرأ { بِهِمُ الاسْبَابُ } [البقرة : 166] الوصل التي كانت بينهم من الاتفاق على دين واحد ومن الأنساب والمحاب.
{ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } [البقرة : 167] أي الاتباع { لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } [البقرة : 167] رجعة إلى الدنيا { فَنَتَبَرَّأَ } نصب على جواب التمني لأن لو في معنى التمني والمعنى ليت لنا كرة فنتبرأ { مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا } [البقرة : 167] الآن { كَذَالِكَ } مثل ذلك الإراء الفظيع { يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَـالَهُمْ } [البقرة : 167] أي عبادتهم الأوثان { حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ } [البقرة : 167] ندامات.
وهي مفعول ثالث لـ يريهم ومعناه أن أعمالهم تنقلب عليهم حسرات فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم.
{ وَمَا هُم بِخَـارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [البقرة : 167] بل هم فيها دائمون.
ونزل فيمن حرموا على أنفسهم البحائر ونحوها.
{ النَّارِ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا } أمر إباحة { مِمَّا فِى الارْضِ } [البقرة : 168] من للتبعيض لأن كل ما في الأرض ليس بمأكول { حَلَـالا } مفعول كلوا ” أو حال مما في الأرض { طَيِّبًا } طاهراً من كل شبهة { وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ } [البقرة : 168] طرقه التي يدعوكم إليها بسكون الطاء : أبو عمر غير عباس ونافع وحمزة وأبو بكر.
والخطوة في الأصل ما بين قدمي الخاطي.
يقال اتبع خطواته إذا اقتدى به واستن بسنته.
{ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [البقرة : 168] ظاهر العداوة لاخفاءه به.
وأبان متعدٍ ولازم.
ولا يناقض هذه الآية قوله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّـاغُوتُ } [البقرة : 257] (البقرة : 752) أي
143
الشيطان لأنه عدو للناس حقيقة ووليهم ظاهراً فإنه يريهم في الظاهر الموالاة ويزين لهم أعمالهم ويريد بذلك هلاكهم في الباطن.
{ إِنَّمَا يَأْمُرُكُم } [البقرة : 169] بيان لوجوب الانتهاء عن اتباعه وظهور عداوته أي لا يأمركم بخير قط إنما يأمركم { بِالسُّواءِ } بالقبيح { وَالْفَحْشَآءِ } وما يتجاوز الحد في القبح من العظائم.
وقيل : السوء ما لاحد فيه والفحشاء ما فيه حد { وَأَن تَقُولُوا } [البقرة : 169] في موضع الجر بالعطف على بالسوء أي وبأن تقولوا { عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 80] هو قولكم هذا حلال وهذا حرام بغير علم ، ويدخل فيه كل ما يضاف إلى الله تعالى مما لا يجوز عليه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 142
لغاية صفحة 421
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ } [البقرة : 170] الضمير للناس.
وعدل بالخطاب عنهم على طريق الالتفاف.
قيل : هم المشركون.
وقيل : طائفة من اليهود لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الإيمان واتباع القرآن ، { قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا } [البقرة : 170] وجدنا { عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ } [البقرة : 170] فإنهم كانوا خيراً منا وأعلم فرد الله عليهم بقوله { أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ } [البقرة : 170] الواو للحال والهمزة بمعنى الرد والتعجب معناه أيتبعونهم ولو كان آباؤهم { لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا } [البقرة : 170] من الذين { وَلا يَهْتَدُونَ } [البقرة : 170] للصواب.
ثم ضرب لهم مثلاً فقال { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا } [البقرة : 171] المضاف محذوف أي ومثل داعي الذين كفروا { كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ } [البقرة : 171] يصيح والمراد { بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَآءً وَنِدَآءً } [البقرة : 171] البهائم.
والمعنى مثل داعيهم إلى الإيمان في أنهم لا يسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة ودوي الصوت من غير إلقاء أذهان ولا استبصار كمثل الناعق بالبهائم التي لا تسمع إلا دعاء الناعق ونداءه الذي هو تصويت بها وزجر لها ولا تفقه شيئاً آخر كما يفهم العقلاء.
والنعقيق : التصويت ، يقال نعق المؤذن ونعق الراعي بالضأن والنداء ما يسمع والدعاء قد يسمع وقد لا يسمع.
{ صُمُّ } خبر مبتدأ مضمر أي هم صم { بِكُمُ } خبر
144
ثانٍ { عُمْىٌ } عن الحق خبر ثالث { فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ } [البقرة : 171] الموعظة ، ثم بين أن ما حرمه المشركون حلال فقال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 142

(1/99)


{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَـاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ } من مستلذاته أو من حلالاته { وَاشْكُرُوا لِلَّهِ } الذي رزقكموها { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [البقرة : 172] إن صح أنكم تختصونه بالعبادة وتقرون أنه معطي النعم.
ثم بين المحرم فقال { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ } [البقرة : 173] وهي كل ما فارقه الروح من غير ذكاة مما يذبح وإنما لإثبات المذكور ونفي ما عداه ، أي ما حرم عليكم إلا الميتة { وَالدَّمَ } يعني السائل لقوله في موضع آخر : { أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا } [الأنعام : 145] (الأنعام : 541).
وقد حلت الميتتان والدمان بالحديث أحلت لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد والكبد والطحال { وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ } [البقرة : 173] يعني الخنزير بجميع أجزائه ، وخص اللحم لأنه المقصود بالأكل.
{ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } [البقرة : 173] أي ذبح للأصنام فذكر عليه غير اسم الله ، وأصل الإهلال رفع الصوت أي رفع به الصوت للصنم ، وذلك قول أهل الجاهلية باسم اللات والعزى.
{ فَمَنِ اضْطُرَّ } [البقرة : 173] أي ألجىء بكسر النون : بصري وحمزة وعاصم لالتقاء الساكنين أعني النون والضاد وبضمها غيرهم لضمة الطاء.
{ غَيْرَ } حال أي أكل غير { بَاغٍ } للذة وشهوة { وَلا عَادٍ } [النحل : 115] متعد مقدار الحاجة.
وقول من قال غير باغ على الإمام ولا عادٍ في سفر حرام ضعيف لأن سفر الطاعة لا يبيح بلا ضرورة ، والحبس بالحضر يبيح بلا سفر ، ولأن بغية لا يخرج عن الإيمان فلا يستحق الحرمان.
والمضطر يباح له قدر ما يقع به القوام وتبقى معه الحياة دون ما فيه حصول الشبع ، لأن الإباحة للاضطرار فتقدر بقدر ما تندفع الضرورة { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة : 173] في الأكل { أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } [البقرة : 235] للذنوب الكبائر فأنى يؤاخذ بتناول الميتة عند الاضطرار { رَّحِيمٌ } حيث رخص.
ونزل في رؤساء اليهود وتغييرهم نعت
145
النبي عليه السلام وأخذهم على ذلك الرشا { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَـابِ } [البقرة : 174] في صفة محمد عليه السلام { وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا } [البقرة : 174] أي عوضاً أو ذا ثمن { أؤلئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ } [البقرة : 174] ملء بطونهم تقول : أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه { إِلا النَّارَ } [هود : 16] لأنه إذا أكل ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه فكأنه أكل النار.
ومنه قولهم ” أكل فلان الدم ” إذا أكل الدية التي هي بدل منه قال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 142
يأكلن كل ليلة إكافاً
أي ثمن إكاف فسماه إكافاً لتلبسه به بكونه ثمناً له.
{ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [البقرة : 174] كلاماً يسرهم ولكن بنحو قوله : { اخْسَـاُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون : 108] (المؤمنون : 801).
{ وَلا يُزَكِّيهِمْ } [البقرة : 174] ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم أو لا يثني عليهم { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة : 174] مؤلم فحرف النفي مع الفعل خبر أولئك وأولئك مع خبره خبر إن والجمل الثلاث معطوفة على خبر إن فقد صار لـ إن أربعة أخبار من الجمل.
{ أؤلئك الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَـالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ } [البقرة : 175] بكتمان نعت محمد عليه السلام { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } [البقرة : 175] فأي شيء أصبرهم على عمل يؤدي إلى النار؟ وهذا استفهام معناه التوبيخ.
{ ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ } [البقرة : 176] أي ذلك العذاب بسبب أن الله نزل ما نزل من الكتب بالحق.
{ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا } [البقرة : 176] أي أهل الكتاب { فِى الْكِتَـابِ } [مريم : 41] هو للجنس أي في كتب الله فقالوا في بعضها حق وفي بعضها باطل { لَفِى شِقَاق } [البقرة : 176] خلاف { بَعِيدٍ } عن الحق أو كفرهم ذلك بسبب أن الله نزل القرآن بالحق كما يعلمون ، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شقاق بعيد عن الهدى.
146
جزء : 1 رقم الصفحة : 142
جزء : 1 رقم الصفحة : 147

(1/100)


{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا } [البقرة : 177] أي ليس البر توليتكم { وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } [البقرة : 177] والخطاب لأهل الكتاب لأن قبلة النصارى مشرق بيت المقدس ، وقبلة اليهود مغربه ، وكل واحد من الفريقين يزعم أن البر التوجه إلى قبلته ، فرد عليهم بأن البر ليس فيما أنتم عليه فإنه منسوخ { وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ } [البقرة : 177] بر { مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ } [البقرة : 62] أو ذا البر من آمن والقولان على حذف المضاف والأول أجود.
والبر اسم للخير ولكل فعل مرضي.
وقيل : كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر القبلة فقيل : ليس البر العظيم الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة ، ولكن البر الذي يجب الاهتمام به بر من آمن وقام بهذه الأعمال.
ليس البر بالنصب على أنه خبر ” ليس ” واسمه أن تولوا : حمزة وحفص.
ولكن البر : نافع وشامي.
وعن المبرد : لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت ولكن البر وقرىء ولكن البار .
{ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } [التوبة : 44] أي يوم البعث { وَالْمَلَـائكَةِ وَالْكِتَـابِ } [البقرة : 177] أي جنس كتب الله أو القرآن { وَالنَّبِيِّانَ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } أي على حب الله أو حب المال أو حب الإيتاء يريد أن يعطيه وهو طيب النفس بإعطائه { ذَوِى الْقُرْبَى } [البقرة : 177] أي القرابة وقدمهم لأنهم أحق.
قال عليه الصلاة والسلام : صدقتك على المسكين صدقة وعلى ذوي رحمك صدقة وصلة .
{ وَالْيَتَـامَى } والمراد الفقراء من ذوي القربى واليتامى ، وإنما أطلق لعدم الإلباس.
{ وَالْمَسَـاكِينَ } المسكين الدائم السكون إلى الناس لأنه لا شيء له كالسكير للدائم السكر { وَابْنَ السَّبِيلِ } [الانفال : 41] المسافر المنقطع وهو جنس وإن كان مفرداً لفظاً ، وجعل ابناً للسبيل لملازمته له أو الضيف { وَالسَّآئِلِينَ } المستطعمين { وَفِي الرِّقَابِ } [البقرة : 177] وفي معاونة
147
المكاتبين حتى يفكوا رقابهم أو في الأسارى { وَأَقَامَ الصَّلَواةَ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 147
البقرة : 177] المكتوبة { وَءَاتَى الزكاة } المفروضة.
قيل : هو تأكيد للأول.
وقيل : المراد بالأول نوافل الصدقات والمبار.
{ وَالْمُوفُونَ } عطف على من آمن { بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـاهَدُوا } [البقرة : 177] الله والناس { وَالصَّـابِرِينَ } نصب على المدح والاختصاص إظهاراً لفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال.
{ فِى الْبَأْسَآءِ } [البقرة : 177] الفقر والشدة { وَالضَّرَّآءِ } المرض والزمانة { وَحِينَ الْبَأْسِ } [البقرة : 177] وقت القتال { أؤلئك الَّذِينَ صَدَقُوا } [البقرة : 177] أي أهل هذه الصفة هم الذين صدقوا في الدين { وَأُوالَـائكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [البقرة : 177].
روي أنه كان بين حيين من أحياء العرب دماء في الجاهلية وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد والذكر بالأنثى والاثنين بالواحد فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين جاء الله بالإسلام فنزل.
{ رَّحِيمٌ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ } أي فرض { عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ } [البقرة : 178] وهو عبارة عن المساواة وأصله من قص أثره واقتصه إذا اتبعه ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار { فِي الْقَتْلَى } [البقرة : 178] جمع قتيل.
والمعنى فرض عليكم اعتبار المماثلة والمساواة بين القتلى { الْحُرُّ بِالْحُرِّ } [البقرة : 178] مبتدأ وخبر أي الحر مأخوذ أو مقتول بالحر { وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالانثَى بِالانثَى } [البقرة : 178] وقال الشافعي رحمه الله : لا يقتل الحر بالعبد لهذا النص وعندنا يجري القصاص بين الحر والعبد بقوله تعالى : { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [المائدة : 45] (المائدة : 54).
كما بين الذكر والأنثى وبقوله عليه السلام المسلمون تتكافأ دماؤهم وبأن التفاضل غير معتبر في الأنفس بدليل أن جماعة لو قتلوا واحداً قتلوا به ، وبأن تخصيص الحكم بنوع لا ينفيه عن نوع آخر بل يبقى الحكم فيه موقوفاً على ورود دليل آخر وقد ورد كما بينا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 147

(1/101)


{ فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَاتِّبَاعُ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَـانٍ } [البقرة : 178] قالوا : العفو ضد العقوبة.
يقال :
148
عفوت عن فلان إذا صفحت عنه وأعرضت عن أن تعاقبه وهو يتعدى بـ ” عن ” إلى الجاني وإلى الجناية { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم } [البقرة : 52] (البقرة ؛ 25) { وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّـاَاتِ } (الشورى : 52) وإذا اجتمعا عدي إلى الأول باللام فتقول ” عفوت له عن ذنبه ” ومنه الحديث عفوت لكم عن صدقه الخيل والرقيق وقال الزجاج : من عفي له أي من ترك له القتل بالدية.
وقال الأزهري : العفو في اللغة الفضل ومنه : { يَسْـاَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالاقْرَبِينَ وَالْيَتَـامَى وَالْمَسَـاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } (البقرة : 912).
ويقال : عفوت لفلان بمال إذا أفضلت له وأعطيته ، وعفوت له عما لي عليه إذا تركته.
ومعنى الآية عند الجمهور : فمن عفي له من جهة أخيه شيء من العفو على أن الفعل مسند إلى المصدر كما في سير بزيد بعض السير والأخ ولي المقتول.
وذكر بلفظ الأخوّة بعثاً له على العطف لما بينهما من الجنسية والإسلام ، ومن هو القاتل المعفو له عما جنى وترك المفعول الآخر استغناء عنه.
وقيل : أقيم ” له ” مقام ” عنه ” والضمير في له وأخيه لـ من ، وفي إليه للأخ أو للمتبع الدال عليه فاتباع لأن المعنى فليتبع الطالب القاتل بالمعروف بأن يطالبه مطالبة جميلة ، وليؤد إليه المطلوب أي القاتل بدل الدم أداء بإحسان بأن لا يمطله ولا يبخسه.
وإنما قيل شيء من العفو ليعلم أنه إذا عفا عن بعض الدم أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص.
ومن فسر عفى بترك جعل شيء مفعولاً به ، وكذا من فسره بـ ” أعطى ” يعني أن الولي إذا أعطى له شيء من مال أخيه يعني القاتل بطريق الصلح فليأخذه بمعروف من غير تعنيف ، وليؤده القاتل إليه بلا تسويف.
وارتفاع اتباع بأنه خبر مبتدأ مضمر أي فالواجب اتباع { ذَالِكَ } الحكم المذكور من العفو وأخذ الدية { تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } [البقرة : 178] فإنه كان في التوراة القتل لا غير ، وفي الإنجيل العفو بغير بدل لا غير ، وأبيح لنا القصاص والعفو وأخذ المال بطريق الصلح توسعة وتيسيراً.
والآية تدل على أن صاحب الكبيرة مؤمن للوصف بالإيمان بعد وجود القتل ولبقاء الأخوّة الثابتة بالإيمان ولاستحقاق التخفيف والرحمة
جزء : 1 رقم الصفحة : 147
{ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَالِكَ } [البقرة : 178] التخفيف فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل أو القتل بعد
149
أخذ الدية { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة : 178] نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة { وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَواةٌ } [البقرة : 179] كلام فصيح لما فيه من الغرابة ، إذ القصاص قتل وتفويت للحياة وقد جعل ظرفاً للحياة.
وفي تعريف القصاص وتنكير الحياة بلاغة بينة لأن المعنى ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة لمنعه عما كانوا عليه من قتل الجماعة بواحد متى اقتدروا فكان القصاص حياة وأي حياة.
أو نوع من الحياة وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالقصاص من القاتل ، لأنه إذا هم بالقتل فتذكر الاقتصاص ارتدع فسلم صاحبه من القتل وهو من القود فكان شرع القصاص سبب حياة نفسين.
{ وَاتَّقُونِ يَـاأُوْلِي الالْبَـابِ } يا ذوي العقول { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة : 21] القتل حذراً من القصاص.

(1/102)


{ كَتَبَ } فرض { عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } [البقرة : 180] أي إذا دنا منه فظهرت أمارته { إِن تَرَكَ خَيْرًا } [البقرة : 180] مالاً كثيراً لما روي عن علي رضي الله عنه إن مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة فمنعه وقال : قال الله تعالى : إن ترك خيراً .
والخير هو المال الكثير وليس لك مال وفاعل كتب { الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالاقْرَبِينَ } [البقرة : 180] وكانت الوصية للوارث في بدء الإسلام فنسخت بآية المواريث كما بيناه في شرح المنار.
وقيل : هي غير منسوخة لأنها نزلت في حق من ليس بوارث بسبب الكفر لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام ، يسلم الرجل ولا يسلم أبواه وقرائبه ، والإسلام قطع الإرث فشرعت الوصية فيما بينهم قضاء لحق القرابة ندباً وعلى هذا لا يراد بكتب فرض { بِالْمَعْرُوفِ } بالعدل وهو أن لا يوصي للغني ويدع الفقير ولا يتجاوز الثلث { حَقًّا } مصدر مؤكد أي حق ذلك حقاً { عَلَى الْمُتَّقِينَ } [البقرة : 180] على الذين يتقون الشرك { فَمَن بَدَّلَهُ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 147
البقرة : 181] فمن غير الإيصاء عن وجهه إن كان موافقاً للشرع من الأوصياء والشهود { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي الإيصاء { فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُا } [البقرة : 181] فما إثم
150
التبديل إلا على مبدليه دون غيرهم من الموصي والموصى له لأنهما بريئان من الحيف { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } [الحج : 75] لقول الموصي { عَلِيمٌ } بجور المبدل { فَمَنْ خَافَ } [البقرة : 182] علم وهذا شائع في كلامهم يقولون أخاف أن ترسل السماء ويريدون الظن الغالب الجاري مجرى العلم { مِن مُّوصٍ } [البقرة : 182] موصّ : كوفي غير حفص.
{ جَنَفًا } ميلاً عن الحق بالخطإ في الوصية { أَوْ إِثْمًا } [النساء : 112] تعمداً للحيف { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ } [البقرة : 182] بين الموصى لهم وهم الوالدان والأقربون بإجرائهم على طريق الشرع { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة : 173] حينئذ لأن تبديله تبديل باطل إلى حق ذكر من يبدل بالباطل ، ثم من يبدل بالحق ليعلم أن كل تبديل لا يؤثم.
وقيل : هذا في حال حياة الموصي أي فمن حضر وصيته فرآه على خلاف الشرع فنهاه عن ذلك وحمله على الصلاح فلا إثم على هذا الموصي بما قال أولاً { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة : 173].
{ رَّحِيمٌ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ } أي فرض { عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [البقرة : 183] هو مصدر صام والمراد صيام شهر رمضان { كَمَا كُتِبَ } [البقرة : 183] أي كتابة مثل ما كتب فهو صفة مصدر محذوف { عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [البقرة : 183] على الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه السلام إلى عهدكم فهو عبادة قديمة ، والتشبيه باعتبار أن كل أحد له صوم أيام أي أنتم متعبدون بالصيام في أيام كما تعبد من كان قبلكم { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة : 21] المعاصي بالصيام لأن الصيام أظلف لنفسه وأردع لها من مواقعة السوء ، أو لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين إذ الصوم شعارهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 147
وانتصاب { أَيَّامًا } بالصيام أي كتب عليكم أن تصوموا أياماً { مَّعْدُودَاتٍ } موقتات بعدد معلوم أي قلائل وأصله أن المال القليل يقدر بالعدد لا الكثير
151

(1/103)


{ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } [البقرة : 184] يخاف من الصوم زيادة المرض { أَوْ عَلَى سَفَرٍ } [النساء : 43] أو راكب سفر { فَعِدَّةٌ } فعليه عدة أي فأفطر فعليه صيام عدد أيام فطره ، والعدة بمعنى المعدود أي أمر أن يصوم أياماً معدودة مكانها { مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة : 184] سوى أيام مرضه وسفره.
وأخر لا ينصرف للوصف والعدل عن الألف واللام لأن الأصل في ” فعلى ” صفة أن تستعمل في الجمع بالألف واللام كالكبرى والكبر والصغرى والصغر { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } [البقرة : 184] وعلى المطيقين للصيام الذين لا عذر لهم إن أفطروا { فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [البقرة : 184] نصف صاع من بر أو صاع من غيره ، فـ طعام بدل من فدية .
فدية طعام مساكين .
مدني وابن ذكوان.
وكان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية ، ثم نسخ التخيير بقوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه .
ولهذا كرر قوله : فمن كان منكم مريضاً أو على سفر .
لأنه لما كان مذكوراً مع المنسوخ ذكر مع الناسخ ليدل على بقاء هذا الحكم.
وقيل : معناه لا يطيقونه فأضمر ” لا ” لقراءة حفصة كذلك وعلى هذا لا يكون منسوخاً.
{ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } [البقرة : 184] فزاد على مقدار الفدية } فهو خيرٌ لّه } فالتطوع أو الخير خير له يطوع بمعنى يتطوع : حمزة وعلي { وَأَن تَصُومُوا } [البقرة : 184] أيها المطيقون { خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة : 184] من الفدية وتطوع الخير وهذا في الابتداء.
وقيل : وأن تصوموا في السفر والمرض خير لكم لأنه أشق عليكم { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 184] شرط محذوف الجواب.
{ شَهْرُ رَمَضَانَ } [البقرة : 185] مبتدأ خبره { الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ } [البقرة : 185] أي ابتدىء فيه إنزاله وكان في ليلة القدر أو أنزل في شأنه القرآن وهو قوله تعالى : كتب عليكم الصيام وهو بدل من الصيام أو خبر مبتدأ محذوف أي هو شهر.
والرمضان
152
جزء : 1 رقم الصفحة : 147

(1/104)


مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء فأضيف إليه الشهر وجعل علماً ، ومنع الصرف للتعريف والألف والنون ، وسموه بذلك لارتماضهم فيه من حر الجوع ومقاساة شدته ، ولأنهم سموا الشهور بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر.
فإن قلت : ما وجه ما جاء في الحديث من صام رمضان إيماناً واحتساباً مع أن التسمية واقعة مع المضاف والمضاف إليه جميعاً؟ قلت : هو من باب الحذف لامن الإلباس.
القران حيث كان غير مهموز : مكي.
وانتصب { هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَـاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } [البقرة : 185] على الحال أي أنزل وهو هداية للناس إلى الحق وهو آيات واضحات مكشوفات مما يهدي إلى الحق ويفرق بين الحق والباطل ، ذكر أولاً أنه هدى ثم ذكر أنه بينات من جملة ما هدى به الله وفرق بين الحق والباطل من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة بين الهدى والضلال.
{ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [البقرة : 185] فمن كان شاهداً أي حاضراً مقيماً غير مسافر في الشهر فليصم فيه ولا يفطر.
والشهر منصوب على الظرف وكذا الهاء في ليصمه ولا يكون مفعولاً به لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر { وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة : 185] فعدة مبتدأ والخبر محذوف أي فعليه عدة أي صوم عدة { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ } [البقرة : 185] حيث أباح الفطر بالسفر والمرض { وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة : 185] ومن فرض الفطر على المريض والمسافر حتى لو صاما تجب عليهما الإعادة فقد عدل عن موجب هذا { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } [البقرة : 185] عدة ما أفطرتم بالقضاء إذا زال المرض والسفر ، والفعل المعلل محذوف مدلول عليه بما سبق تقديره لتعلموا ولتكملوا العدة { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة : 185] شرع ذلك يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر ، وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه ومن الترخيص في إباحة الفطر.
فقوله : لتكملوا علة الأمر بمراعاة العدة ولتكبروا علة ما علم من كيفية القضاء والخروج من عهدة الفطر ولعلكم تشكرون علة الترخيص وهذا نوع من اللف اللطيف المسلك.
وعدي التكبير بـ ” على ” لتضمنه معنى الحمد كأنه قيل : لتكبروا الله أي لتعظموه حامدين على ما هداكم إليه.
ولتكمّلوا بالتشديد : أبو بكر.
ولما قال إعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ نزل
153
جزء : 1 رقم الصفحة : 147
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } [البقرة : 186] علماً وإجابة لتعاليه عن القرب مكاناً { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة : 186] الداعي دعاني في الحالين : سهل ويعقوب ، ووافقهما أبو عمرو ونافع غير قالون في الوصل.
غيرهم بغير ياء في الحالين.
ثم إجابة الدعاء وعد صدق من الله لا خلف فيه ، غير أن إجابة الدعوة تخالف قضاء الحاجة فإجابة الدعوة أن يقول العبد يا رب فيقول الله لبيك عبدي ، وهذا أمر موعود موجود لكل مؤمن وقضاء الحاجة إعطاء المراد وذا قد يكون ناجزاً وقد يكون بعد مدة وقد يكون في الآخرة وقد تكون الخبرة له في غيره { فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى } [البقرة : 186] إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم { وَلْيُؤْمِنُوا بِى } [البقرة : 186] واللام فيهما للأمر { لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة : 186] ليكونوا على رجاء من إصابة الرشد وهو ضد الغي.
كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد ، فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى القابلة.
ثم إن عمر رضي لله عنه واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة ، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه فأتى النبي عليه السلام وأخبره بما فعل فقال عليه السلام ما كنت جديراً بذلك فنزل { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ } [البقرة : 187] إي الجماع { إِلَى نِسَآئِكُمْ } [البقرة : 187] عدى بـ ” إلى ” لتضمنه معنى الإفضاء وإنما كنى عنه بلفظ الرفث الدال على معنى القبح ولم يقل الإفضاء إلى نسائكم استقباحاً لما وجد منهم قبل الإباحة كما سماه اختياناً
154

(1/105)


لأنفسهم ، ولما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل واحد منهما على صاحبه في عناقه شبه باللباس المشتمل عليه بقوله تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } [البقرة : 187] وقيل : لباس أي ستر عن الحرام ، وهن لباس لكم استئناف كالبيان لسبب الإحلال وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن وصعب عليكم اجتنابهن فلذا رخص لكم في مباشرتهن { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 147
البقرة : 187] تظلمونها بالجماع وتنقصونها حظها من الخير.
والاختيان من الخيانة كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } [البقرة : 54] حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور { وَعَفَا عَنكُمْ } [البقرة : 187] ما فعلتم قبل الرخصة { أُحِلَّ لَكُمْ } [البقرة : 187] جامعوهن في ليالي الصوم وهو أمر إباحة وسميت المجامعة مباشرة لالتصاق بشرتيهما { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } [البقرة : 187] واطلبوا ما قسم الله لكم وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل ، أو وابتغوا المحل الذي كتبه الله لكم وحلله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الابْيَضُ } [البقرة : 187] هو أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود { مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ } [البقرة : 187] وهو ما يمتد من سواد الليل شبهاً بخيطين أبيض وأسود لامتدادهما { مِنَ الْفَجْرِ } [البقرة : 187] بيان أن الخيط الأبيض من الفجر لا من غيره ، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحدهما بيان للآخر ، أو من للتبعيض لأنه بعض الفجر وأوله.
وقوله من الفجر أخرجه من باب الاستعارة وصيره تشبيهاً بليغاً كما أن قولك ” رأيت أسداً ” مجاز فإذا زدت ” من فلان ” رجع تشبيهاً.
وعن عدي ابن حاتم قال : عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي فنظرت إليهما فلم يتبين لي الأبيض من الأسود ، فأخبرت النبي عليه السلام بذلك فقال : إنك لعريض القفا أي سليم القلب لأنه مما يستدل به على بلاهة الرجل وقلة فطنته ، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل.
وفي قوله { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ } [البقرة : 187] أي الكف عن هذه الأشياء دليل على جواز النية بالنهار في صوم رمضان ، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر ، وعلى نفي الوصال ، وعلى وجوب الكفارة في الأكل والشرب ، وعلى أن الجنابة لا تنافي الصوم { وَلا تُبَـاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَـاكِفُونَ فِي الْمَسَـاجِدِ } [البقرة : 187] معتكفون فيها ، بيّن أن الجماع
155
جزء : 1 رقم الصفحة : 147

(1/106)


يحل في ليالي رمضان لكن لغير المعتكف.
والجملة في موضع الحال ، وفيه دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد وأنه لا يختص به مسجد دون مسجد { تِلْكَ } الأحكام التي ذكرت { حُدُودَ اللَّهِ } [البقرة : 229] أحكامه المحدودة { فَلا تَقْرَبُوهَا } [البقرة : 187] بالمخالفة والتغيير { كَذاَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ ءَايَـاتِهِ } [البقرة : 187] شرائعه { لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [البقرة : 187] المحارم.
{ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم } [البقرة : 188] أي لا يأكل بعضكم مال بعض { بِالْبَـاطِلِ } بالوجه الذي لم يبحه الله ولم يشرعه { وَتُدْلُوا بِهَآ إِلَى الْحُكَّامِ } [البقرة : 188] ولا تدلوا بها فهو مجزوم داخل في حكم النهي يعني ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكام { لِتَأْكُلُوا } بالتحاكم { فَرِيقًا } طائفة { مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالاثْمِ } [البقرة : 188] بشهادة الزور أو بالأيمان الكاذبة أو بالصلح مع العلم بأن المقضى له ظالم.
وقال عليه السلام للخصمين إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذن منه شيئاً فإن ما أقضي له قطعة من نار فبكيا وقال كل واحد منهما حقي لصاحبي.
وقيل : وتدلوا بها وتلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة.
يقال أدلى دلوه أي ألقاه في البئر للاستقاء.
{ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 22] أنكم على الباطل وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبح وصاحبه بالتوبيخ أحق.
جزء : 1 رقم الصفحة : 147
جزء : 1 رقم الصفحة : 156
قال معاذ بن جبل : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلىء ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا لا يكون على حالة واحدة كالشمس؟ فنزل { يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِ } [البقرة : 189] جمع هلال سمي به لرفع الناس أصواتهم عند
156
رؤيته { قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } [البقرة : 189] أي معالم يوقت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصومهم وفطرهم وعدة نسائهم وأيام حيضهن ومدة حملهن وغير ذلك ، ومعالم للحج يعرف بها وقته.
كان ناس من الأنصار إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً من باب ، فإن كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته منه يدخل ويخرج ، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء فنزل { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا } [البقرة : 189] أي ليس البر بتحرجكم من دخول الباب ، ولا خلاف في رفع البر هنا لأن الآية ثمة تحتمل الوجهين كما بينا فجاز الرفع والنصب ثمة ، وهذه لا تحتمل إلا وجهاً واحداً وهو الرفع إذ الباء لا تدخل إلا على خبر ” ليس ” { وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ } [البقرة : 177] بر { مَنِ اتَّقَى } [البقرة : 189] ما حرم الله.
البيوت وبابه مدني وبصري وحفص وهو الأصل مثل كعب وكعوب ، ومن كسر الباء فلمكان الياء بعدها ولكن هي توجب الخروج من كسر إلى ضم وكأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة وعن الحكمة في نقصانها وتمامها.
معلوم أن كل ما يفعله الله تعالى لا يكون إلا حكمة فدعوا السؤال عنه وانظروا في خصلة واحدة تفعلونها مما ليس من البر في شيء وأنتم تحسبونها براً ، فهذا وجه اتصاله بما قبله.
ويحتمل أن يكون ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت الحج لأنه كان من أفعالهم في الحج ، ويحتمل أن يكون هذا تمثيلاً لتعكيسهم في سؤالهم وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخل من ظهره ، والمعنى ليس البر وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم ، ولكن البربر من اتقى ذلك وتجنبه ولم يجسر على مثله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 156

(1/107)


{ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } [البقرة : 189] وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا ، أو المراد وجوب الاعتقاد بأن جميع أفعاله تعالى حكمة وصواب من غير اختلاج شبهة ولا اعتراض شك في ذلك حتى لا يسأل عنه لما في السؤال من الاتهام بمقارنة الشك { لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـاَلُونَ } [الأنبياء : 23] (الأنبياء : 32) { وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] فيم أمركم به ونهاكم عنه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [البقرة : 189] لتفوزوا بالنعيم السرمدي.
{ وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [البقرة : 190] المقاتلة في سبيل الله الجهاد لإعلاء كلمة الله وإعزاز الدين { الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَكُمْ } [البقرة : 190] يناجزونكم القتال دون المحاجزين وعلى هذا يكون منسوخاً بقوله تعالى : { وَقَـاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } [التوبة : 36] (التوبة : 63) وقيل : هي أول آية نزلت في القتال فكان رسول
157
الله صلى الله عليه وسلّم يقاتل من قاتل ويكف عمن كف ، أو الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ والصبيان والرهبان والنساء ، أو الكفرة كلهم لأنهم قاصدون لمقاتلة المسلمين فهم في حكم المقاتلة { وَلا تَعْتَدُوا } [البقرة : 190] في ابتداء القتال أو بقتال من نهيتم عنه من النساء والشيوخ ونحوهما أو بالمثلة { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } وجدتموهم.
والثقف الوجود على وجه الأخذ والغلبة { وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } [البقرة : 191] أي من مكة وعدهم الله تعالى فتح مكة بهذه الآية وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمن لم يسلم منهم يوم الفتح { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } [البقرة : 191] أي شركهم بالله أعظم من القتل الذي يحل بهم منكم.
وقيل : الفتنة عذاب الآخرة.
وقيل : المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان فيعذب به أشد عليه من القتل.
وقيل لحكيم : ما أشد من الموت؟ قال : الذي يتمنى فيه الموت.
فقد جعل الإخراج من الوطن من الفتن التي يتمنى عندها الموت.
جزء : 1 رقم الصفحة : 156
{ وَلا تُقَـاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَـاتِلُوكُمْ فِيهِ } [البقرة : 191] أي ولا تبدأوا بقتالهم في الحرم حتى يبدأوا فعندنا المسجد الحرم يقع على الحرم كله { فَإِن قَـاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } [البقرة : 191] في الحرم فعندنا يقتلون في الأشهر الحرم لا في الحرم إلا أن يبدأوا بالقتال معنا فحينئذ نقتلهم وإن كان ظاهر قوله واقتلوهم حيث ثقفتموهم يبيح القتل في الأمكنة كلها لكن لقوله ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه خص الحرم إلا عند البداءة منهم كذا في شرح التأويلات { كَذَالِكَ جَزَآءُ الْكَـافِرِينَ } [البقرة : 191] مبتدأ وخبر.
ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم : حمزة وعلي { فَإِنِ انتَهَوْا } [الانفال : 39] عن الشرك والقتال { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } [البقرة : 192] لما سلف من طغيانهم { رَّحِيمٌ } بقبول توبتهم وإيمانهم.
{ وَقَـاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } [البقرة : 193] شرك وكان تامة وحتى بمعنى ” كي ” أو ” إلى أن ” { وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } [البقرة : 193] خالصاً ليس للشيطان فيه نصيب أي لا يعبد دونه شيء
158
{ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّـالِمِينَ } [البقرة : 193] فإن امتنعوا عن الكفر فلا تقاتلوهم فإنه لا عدوان إلا على الظالمين ولم يبقوا ظالمين ، أو فلا تظلموا إلا الظالمين غير المنتهين ، سمى جزاء الظالمين ظلماً للمشاكلة كقوله { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ } [البقرة : 194].
قاتلهم المشركون عام الحديبية في الشهر الحرام وهو ذو القعدة فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال وذلك في ذي القعدة { الشَّهْرُ الْحَرَامُ } [البقرة : 194] مبتدأ خبره { بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ } [البقرة : 194] أي هذا الشهر بذلك الشهر وهتكه بهتكه يعني تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم { وَالْحُرُمَـاتُ قِصَاصٌ } [البقرة : 194] أي وكل حرمة يجري فيها القصاص من هتك حرمة أي حرمة كانت اقتص منه بأن تهتك له حرمه ، فحين هتكوا حرمة شهركم فافعلوا بهم نحو ذلك ولا تبالوا وأكد ذلك بقوله

(1/108)


جزء : 1 رقم الصفحة : 156
{ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [البقرة : 194] من شرطية والباء غير زائدة والتقدير بعقوبة مماثلة لعدوانهم ، أو زائدة وتقديره عدواناً مثل عدوانهم { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [البقرة : 194] بالنصر { وَأَنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ } [البقرة : 195] تصدقوا في رضا الله وهو عام في الجهاد وغيره { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } [البقرة : 195] أي أنفسكم والباء زائدة ، أو ولا تقتلوا أنفسكم بأيديكم كما يقال ” أهلك فلان نفسه بيده ” إذا تسبب لهلاكها.
والمعنى النهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله لأنه سبب الهلاك ، أو عن الإسراف في النفقة حتى يفقر نفسه ويضيع عياله ، أو عن الإخطار بالنفس ، أو عن ترك الغزو الذي هو تقوية للعدو والتهلكة والهلاك والهلك واحد { وَأَحْسِنُوا } الظن بالله في الإخلاف { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [البقرة : 195] إلى المحتاجين.
159
{ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة : 196] وأدوهما تأمين بشرائطهما وفرائضهما لوجه الله تعالى بلا توان ولا نقصان.
وقيل : الإتمام يكون بعد الشروع فهو دليل على أن من شرع فيهما لزمه إتمامهما وبه نقول : إن العمرة تلزم بالشروع.
ولا تمسك للشافعي رحمه الله بالآية على لزوم العمرة لأنه أمر بإتمامها ، وقد يؤمر بإتمام الواجب والتطوع أو إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك أو أن تفرد لكل واحد منهما سفراً أو أن تنفق فيهما حلالاً أو أن لا تتجر معهما { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } [البقرة : 196] يقال أحصر فلان إذا منعه أمر من خوف أو مرض أو عجز ، وحصر إذا حبسه عدو عن المضي.
وعندنا الإحصار يثبت بكل منع من عدو أو مرض أو غيرهما لظاهر النص ، وقد جاء في الحديث من كسر أو عرج فقد حل أي جاز له أن يحل وعليه الحج من قابل.
وعند الشافعي رحمه الله : الإحصار بالعدو وحده.
وظاهر النص يدل على أن الإحصار يتحقق في العمرة أيضاً لأنه ذكر عقبهما { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ } [البقرة : 196] فما تيسر منه.
يقال يسر الأمر واستيسر كما يقال صعب واستصعب.
والهدي جمع هدية يعني فإن منعتم من المضي إلى البيت وأنتم محرمون بحج أو عمرة فعليكم إذا أردتم التحلل ما استيسر من الهدى من بعير أو بقرة أو شاة ” فما ” رفع بالابتداء أي فعليكم ما استيسر ، أو نصب أي فأهدوا له ما استيسر
جزء : 1 رقم الصفحة : 156
{ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ } الخطاب للمحصرين أي لا تحلوا بحلق الرأس حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ محله أي مكانه الذي يجب نحره فيه وهو الحرم ، وهو حجة لنا في أن دم الإحصار لا يذبح إلا في الحرم على الشافعي رحمه الله إذ عنده يجوز في
160

(1/109)


غير الحرم { مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } [البقرة : 184] فمن كان منكم به مرض يحوجه إلى الحلق { أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ } [البقرة : 196] وهو القمل أو الجراحة { فَفِدْيَةٌ } فعليه إذا حلق فدية { مِّن صِيَامٍ } [البقرة : 196] ثلاثة أيام { أَوْ صَدَقَةٍ } [البقرة : 196] على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من بر { أَوْ نُسُكٍ } [البقرة : 196] شاة وهو مصدر أو جمع نسيكة { فَإِذَآ أَمِنتُمْ } [البقرة : 239] الإحصار أي فإذا لم تحصروا وكنتم في حال أمن وسعة { فَمَن تَمَتَّعَ } [البقرة : 196] استمتع { بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ } [البقرة : 196] واستمتاعه بالعمرة إلى وقت الحج انتفاعه بالتقرب بها إلى الله قبل انتفاعه بالتقرب بالحج.
وقيل : إذا حل من عمرته انتفع باستباحة ما كان محرماً عليه إلى أن يحرم بالحج { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ } [البقرة : 196] هو هدي المتعة ، وهو نسك يؤكل منه ويذبح يوم النحر.
{ فَمَن لَّمْ يَجِدْ } [البقرة : 196] الهدي { فَصِيَامُ ثَلَـاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } [البقرة : 196] فعليه صيام ثلاثة أيام في وقت الحج وهو أشهره ما بين الإحرامين إحرام العمرة وإحرام الحج { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } [البقرة : 196] إذا نفرتم وفرغتم من أفعال الحج { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } [البقرة : 196] في وقوعها بدلاً من الهدي أو في الثواب ، أو المراد رفع الإبهام فلا يتوهم في الواو أنها بمعنى الإباحة كما في ” جالس الحسن وابن سيرين ” ، ألا ترى أنه لو جالسهما أو واحداً منهما كان ممتثلاً { ذَالِكَ } إشارة إلى التمتع عندنا إذ لا تمتع ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندنا ، وعند الشافعي رحمه الله إلى الحكم الذي هو وجوب الهدي أو الصيام ولم يوجب عليهم شيئاً { لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [البقرة : 196] هم أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة { وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] فيما أمركم به ونهاكم عنه في الحج وغيره { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [البقرة : 196] لمن لم يتقه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 156
{ الْحَجُّ } أي وقت الحج كقولك ” البرد شهران ” { أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـاتٌ } [البقرة : 197] معروفات عند الناس لا يشكلن عليهم وهي شوال وذو القعدة وعشر ذو الحجة.
وفائدة توقيت الحج بهذه الأشهر أن شيئاً من أفعال الحج لا يصح إلا فيها وكذا الإحرام عند الشافعي رحمه الله ، وعندنا وإن انعقد لكنه مكروه ، وجمعت أي الأشهر لبعض الثالث ، أو لأن اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد بدليل قوله تعالى : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [التحريم : 4] (التحريم : 4)
161

(1/110)


{ فَمَن فَرَضَ } [البقرة : 197] ألزم نفسه بالإحرام { فِيهِنَّ الْحَجَّ } [البقرة : 197] في هذه الأشهر { فَلا رَفَثَ } [البقرة : 197] هو الجماع أو ذكره عند النساء أو الكلام الفاحش { وَلا فُسُوقَ } [البقرة : 197] هو المعاصي أو السباب لقوله عليه السلام سباب المؤمن فسوق أو التنابز بالألقاب لقوله تعالى : { بِئْسَ اسْمُ الْفُسُوقُ } [الحجرات : 11] (الحجرات : 11) { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [البقرة : 197] ولامراء مع الرفقاء والخدم والمكارين.
وإنما أمر باجتناب ذلك وهو واجب الاجتناب في كل حال لأنه مع الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة والتطريب في قراءة القرآن.
والمراد بالنفي وجوب انتفائها وأنها حقيقة بأن لاتكون.
وقرأ أبو عمرو ومكي الأولين بالرفع فحملاهما على معنى النهي كأنه قيل : فلا يكونن رفث ولا فسوق ، والثالث بالنصب على معنى الإخبار بانتفاء الجدال كأنه قيل : ولا شك ولا خلاف في الحج.
ثم حث على الخير عقيب النهي عن الشر وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن ، ومكان الفسوق البر والتقوى ، ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة بقوله تعالى : { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } [البقرة : 197] اعلم بأنه عالم به يجازيكم عليه ورد قول من نفى علمه بالجزئيات.
كان أهل اليمن لا يتزودون ويقولون نحن متوكلون فيكونون كلاً على الناس فنزل فيهم { وَتَزَوَّدُوا } أي تزودوا واتقوا الاستطعام وإبرام الناس والتثقيل عليهم { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } [البقرة : 197] أي الإتقاء عن الإبرام والتثقيل عليهم ، أو تزودوا للمعاد باتقاء المحظورات فإن خير الزاد اتقاؤها { وَاتَّقُونِ } وخافوا عقابي وهو مثل { دَعَانِ } (البقرة : 681) { يَـاأُوْلِي الالْبَـابِ } [البقرة : 197] يا ذوي العقول يعني أن قضية اللب تقوى الله ومن لم يتقه من الألباء فكأنه لا لب له.
جزء : 1 رقم الصفحة : 156
ونزل في قوم زعموا أن لا حج لجمال وتاجر وقالوا هؤلاء الداجّ وليسوا بالحاج { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا } [البقرة : 198] في أن تبتغوا في مواسم الحج
162
{ فَضْلا مِّن رَّبِّكُمْ } [البقرة : 198] عطاء وتفضلاً وهو النفع والربح بالتجارة والكراء { فَإِذَآ أَفَضْتُم } [البقرة : 198] دفعتم بكثرة من إفاضة الماء وهو صبه بكثرة ، وأصله أفضنم أنفسكم فترك ذكر المفعول { مِّنْ عَرَفَـاتٍ } [البقرة : 198] هي علم للموقف سمي بجمع كأذرعات.
وإنما صرفت لأن التاء فيها ليست للتأنيث بل هي مع الألف قبلها علامة جمع المؤنث ، وسميت بذلك لأنها وصفت لإبراهيم عليه السلام فلما رآها عرفها.
وقيل : التقى فيها آدم وحواء فتعارفا ، وفيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة لأن الإفاصة لا تكون إلا بعده { فَاذْكُرُوا اللَّهَ } [البقرة : 198] بالتلبية والتهليل والتكبير والثناء والدعوات أو بصلاة المغرب والعشاء { عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } [البقرة : 198] هو قزح وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه الميقدة.
والمشعر المعلم لأنه معلم العبادة ، ووصف بالحرام لحرمته.
وقيل : المشعر الحرام مزدلفة ، وسميت المزدلفة جمعاً لأن آدم عليه السلام اجتمع فيها مع جواء وازدلف إليها أي دنا منها ، أو لأنه يجمع فيها بين الصلاتين ، أو لأن الناس يزدلفون إلى الله تعالى أي يتقربون بالوقوف فيها { وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } [البقرة : 198] ما مصدرية أوكافة اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة ، أو اذكروه كما علمكم كيف تذكرونه ولا تعدلوا عنه { وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ } [البقرة : 198] من قبل الهدى { لَمِنَ الضَّآلِّينَ } [البقرة : 198] الجاهلين لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه وإن مخففة من الثقيلة واللام فارقة { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } [البقرة : 199] ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس ولا تكن من المزدلفة.
قالوا : هذا أمر لقريش بالإفاضة من عرفات إلى جمع وكانوا يقفون بجمع وسائر الناس بعرفات ويقولون : نحن قطان حرمه فلا نخرج منه.
وقيل : الإفاضة من عرفات مذكورة فهي الإفاضة من جمع إلى منى.
والمراد بالناس على هذا الجنس ويكون الخطاب للمؤمنين { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ } [البقرة : 199] من مخالفتكم في الموقف ونحو ذلك من جاهليتكم أو من تقصير في
163

(1/111)


أعمال الحج { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة : 173] بكم { فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـاسِكَكُمْ } [البقرة : 200] فإذا فرغتم من عباداتكم التي أمرتم بها في الحج ونفرتم { فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ } [البقرة : 200] أي فاذكروا الله ذكراً مثل ذكركم آباءكم.
والمعنى فأكثروا من ذكر الله وبالغوا فيه كما تفعلون في ذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم.
وكانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل فيعددون فضائل آبائهم ويذكرون محاسن أيامهم { أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } [البقرة : 200] أي أكثر.
وهو في موضع جر عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله كذكركم كما تقولون كذكر قريش إباءهم أو قوم أشد منهم ذكراً وذكراً تمييز.
جزء : 1 رقم الصفحة : 156
{ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ } [البقرة : 200] فمن الذين يشهدون الحج من يسأل الله حظوظ الدنيا فيقول { رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا } [البقرة : 201] اجعل إيتاءنا أي إعطاءنا في الدنيا خاصة يعني الجاه والغنى { وَمَا لَهُ فِى الاخِرَةِ مِنْ خَلَـاقٍ } [البقرة : 200] نصيب لأن همه مقصور على الدنيا لكفره بالآخرة.
والمعنى أكثروا ذكر الله ودعاءه لأن الناس من بين مقل لا يطلب بذكر الله إلا أغراض الدنيا ، ومكثر يطلب خير الدارين فكونوا من المكثرين أي من الذين قيل فيهم { وَمِنْهُمْ } ومن الذين يشهدون الحج { مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً } [البقرة : 201] نعمة وعافية ، أو علماً وعبادة.
{ وَفِي الاخِرَةِ حَسَنَةً } [البقرة : 201] عفواً ومغفرة ، أو المال والجنة ، أو ثناء الخلق ورضا الحق ، أو الإيمان والأمان ، أو الإخلاص والخلاص ، أو السنة والجنة ، أو القناعة والشفاعة ، أو المرأة الصالحة والحور العين ، أو العيش على سعادة والبعث من القبور على بشارة.
{ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [البقرة : 201] احفظنا من عذاب جهنم ، أو عذاب النار امرأة السوء.
{ أُوالَـائِكَ } أي الداعون بالحسنتين { لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا } [البقرة : 202] من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة ، أو من أجل ما كسبوا ،
164
وسمى الدعاء كسباً لأنه من لأعمال والأعمال موصوفة بالكسب ، ويجوز أن يكون أولئك للفريقين وأن لكل فريق نصيباً من جنس ما كسبوا { وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [البقرة : 202] يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد فبادروا إكثار الذكر وطلب الآخرة أو وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم وكثرة أعمالهم ليدل على كمال قدرته ووجوب الحذر من نقمته.
وروي أنه يحاسب الخلق في قدر حلب شاة وروي في مقدار لمحة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 156
جزء : 1 رقم الصفحة : 165

(1/112)


{ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } [البقرة : 203] هي أيام التشريق وذكر الله فيها التكبير في أدبار الصلوات وعند الجمار { فَمَن تَعَجَّلَ } [البقرة : 203] فمن عجل في النفر أو استعجل النفر.
وتعجل واستعجل يجيئان مطاوعين بمعنى عجل.
يقال تعجل في الأمر واستعجل ومتعديين يقال تعجل الذهاب واستعجله والمطاوعة أوفق لقوله ومن تأخر { فِى يَوْمَيْنِ } [البقرة : 203] من هذه الأيام الثلاثة فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة : 173] فلا يأثم بهذا التعجل { وَمَن تَأَخَّرَ } [البقرة : 203] حتى رمى في اليوم الثالث { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى } [البقرة : 203] الصيد أو الرفث والفسوق أو هو مخير في التعجل.
والتأخر وإن كان التأخر أفضل فقد يقع التخيير بين الفاضل والأفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل.
وقيل : كان أهل الجاهلية فريقين منهم من جعل المتعجل آثماً ومنهم من جعل المتأخر آثماً فورد القرآن بنفي المأثم عنهما { وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] في جميع الأمور { وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [البقرة : 203] حين يبعثكم من القبور.
كان الأخنس بن شريق حلو المنطق إذا لقي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألان له القول وادعى أنه يحبه وأنه مسلم وقال يعلم الله أني صادق فنزل فيه.
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } [البقرة : 204] يروقك ويعظم في قلبك ومنه الشيء العجيب الذي يعظم في النفس { فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } [التوبة : 55] في يتعلق بالقول أي يعجبك ما يقول في معنى الدنيا لأنه يطلب بادعاء المحبة حظ الدنيا ولا يريد به الآخرة ، أو بـ ” يعجبك ” أي يعجبك حلو كلامه في الدنيا لا في الآخرة لما يرهقه في الموقف من الحبسة واللكنة
165
{ وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ } [البقرة : 204] أي يحلف ويقول الله شاهد على ما في قلبي من محبتك ومن الإسلام { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 165
البقرة : 204] شديد الجدال والعداوة للمسلمين ، والخصام والمخاصمة والإضافة بمعنى في لأن ” أفعل ” يضاف إلى ما هو بعضه تقول : زيد أفضل القوم ولا يكون الشخص بعض الحدث فتقديره ألد في الخصومة ، أو الخصام جمع خصم كصعب وصعاب والتقدير : وهو أشد الخصوم خصومة.
{ وَإِذَا تَوَلَّى } [البقرة : 205] عنك وذهب بعد إلانة القول وإحلاء المنطق { سَعَى فِى الارْضِ لِيُفْسِدَ } [البقرة : 205] كما فعل بثقيف فإنه كان بينه وبينهم خصومة فبيتهم ليلاً وأهلك مواشيهم وأحرق زروعهم { فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } [البقرة : 205] أي الزرع والحيوان ، أو إذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل.
وقيل : يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الخرث والنسل.
{ لَهُ } للأخنس { اتَّقِ اللَّهَ } [البقرة : 206] في الإفساد والإهلاك { أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالاثْمِ } [البقرة : 206] حملته النخوة وحمية الجاهلية على الإثم الذي ينهى عنه وألزمته ارتكابه ، أو الباء للسبب أي أخذته العزة من أجل الإثم الذي في قلبه وهو الكفر { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } [البقرة : 206] أي كافيه { وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } [البقرة : 206] أي الفراش جهنم.
ونزل في صهيب حين أراده المشركون على ترك الإسلام وقتلوا نفراً كانوا معه فاشترى نفسه بماله منهم وأتى المدينة ، أو فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ } [البقرة : 207] يبيعها { ابْتِغَآءَ } لابتغاء { مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ } [البقرة : 207] حيث أثابهم على ذلك
166

(1/113)


{ بِالْعِبَادِ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ } وبفتح السين حجازي وعلي ، وهو الاستسلام والطاعة أي استسلموا لله وأطيعوه أو الإسلام ، والخطاب لأهل الكتاب لأنهم آمنوا بنبيهم وكتابهم ، أو للمنافقين لأنهم آمنوا بألسنتهم { كَآفَّةً } لا يخرج أحد منكم يده عن طاعته حال من الضمير في ادخلوا أي جميعاً ، أو من السلم لأنها تؤنث كأنهم أمروا أن يدخلوا في الطاعات كلها ، أو في شعب الإسلام وشرائعه كلها ، وكافة من الكف كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد باجتماعهم { وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ } [البقرة : 168] وساوسه { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [البقرة : 168] ظاهر العداوة { فَإِن زَلَلْتُم } [البقرة : 209] ملتم عن الدخول في السلم { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَـاتُ } [البقرة : 209] أي الحجج الواضحة والشواهد اللائحة على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق { فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } [البقرة : 209] غالب لا يمنعه شيء من عذابكم { حَكِيمٌ } لا يعذب إلا بحق.
وروي أن قارئاً قرأ ” غفور رحيم ” فسمعه أعرابي لم يقرأ القرآن فأنكره وقال ليس هذا من كلام الله إذ الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل والعصيان لأنه إغراء عليه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 165
{ هَلْ يَنظُرُونَ } [الأنعام : 158] ما ينتظرون { إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ } [البقرة : 210] أي أمر الله وبأسه كقوله : { أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبِّكَ } [النحل : 33] (النحل : 33).
{ فَجَآءَهَا بَأْسُنَا } [الأعراف : 4] (الأعراف : 4) أو المأتي به محذوف بمعنى أن يأتيهم الله ببأسه للدلالة عليه بقوله : فاعلموا أن الله عزيز { فِي ظُلَلٍ } [البقرة : 210] جمع ظلة وهي ما أظلك { مِّنَ الْغَمَامِ } [البقرة : 210] الحساب.
وهو للتهويل إذ الغمام مظنة الرحمة أنزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول { وَالْمَلَـائكَةِ } أي وتأتي الملائكة الذين وكلوا بتعذيبهم أو المراد حضورهم يوم القيامة { وَقُضِىَ الامْرُ } [هود : 44] أي وتم أمر إهلاكهم وفرغ منه { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ } [البقرة : 210] أي أنه ملّك العباد بعض الأمور فترجع إليه الأمور يوم النشور.
ترجع الأمور حيث كان : شامي وحمزة وعلي.
167
{ سَلْ } أصله اسأل فنقلت فتحة الهمزة إلى السين بعد حذفها واستغني عن همزة الوصل فصار ” سل ” .
وهو أمر للرسول أو لكل أحد وهو سؤال تقريع كما يسأل الكفرة يوم القيامة.
{ بَنِى إِسْرَاءِيلَ كَمْ ءَاتَيْنَـاهُم مِّنْ ءَايَة بَيِّنَةٍ } [البقرة : 211] على أيدي أنبيائهم وهي معجزاتهم أو من آية في الكتب شاهدة على صحة دين الإسلام.
وكم استفهامية أو خبرية { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ } [البقرة : 211] هي آياته وهي أجل نعمة من الله لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة وتبديلهم إياها ، إن الله أظهرها لتكون أسباب هداهم فجعلوها أسباب ضلالتهم كقوله { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } [التوبة : 125] (التوبة : 521) أو حرفوا آيات الكتب الدالة على دين محمد عليه السلام { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ } [البقرة : 211] من بعد ما عرفها وصحت عنده لأنه إذا لم يعرفها فكأنها غائبة عنه { فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [البقرة : 211] لمن استحقه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 165

(1/114)


{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا } [البقرة : 212] المزين هو الشيطان زين لهم الدنيا وحسنها في أعينهم بوساوسه وحببها إليهم فلا يريدون غيرها ، أو الله تعالى يخلق الشهوات فيهم ولأن جميع الكائنات منه ويدل عليه قراءة من قرأ زين للذين كفروا الحياة الدنيا { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [البقرة : 212] كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين كابن مسعود وعمار وصهيب ونحوهم أي لا يريدون غير الدنيا وهم يسخرون ممن لا حظ له فيها أو ممن يطلب غيرها { وَالَّذِينَ اتَّقَوْا } [البقرة : 212] عن الشرك وهم هؤلاء الفقراء { فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [البقرة : 212] لأنهم في جنة عالية وهم في نار هاوية { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [البقرة : 212] بغير تقتير يعني أنه يوسع على من أراد التوسعة عليه كما وسع على قارون وغيره ، وهذه التوسعة عليكم من الله لحكمة وهي استدارجكم بالنعمة ولو كانت كرامة لكان المؤمنون أحق بها منكم
168
{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } [البقرة : 213] متفقين على دين الإسلام من آدم إلى نوح عليهما السلام ، أو هم نوح ومن كان معه في السفينة فاختلفوا { فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّانَ } [البقرة : 213] ويدل على حذفه قوله تعالى : { لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } [البقرة : 213] (البقرة : 312) وقراءة عبد الله كان الناس أمة واحدة فاختلفوا وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا } [يونس : 19] (يونس : 91) أو كان الناس أمة واحدة كفاراً فبعث الله النبيين فاختلفوا عليهم والأول الأوجه { مُبَشِّرِينَ } بالثواب للمؤمنين { وَمُنذِرِينَ } بالعقاب للكافرين وهما حالان { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَـابَ } [البقرة : 213] أي مع كل واحد منهم كتابه { بِالْحَقِّ } بتبيان الحق { لِيَحْكُمَ } الله أو الكتاب أو النبي المنزل عليه { بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 165
البقرة : 213] في دين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق.
{ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ } [البقرة : 213] في الحق { إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ } [البقرة : 213] أي الكتاب المنزل لإزاله الاختلاف أي ازدادوا في الاختلاف لما أنزل عليهم الكتاب { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَـاتُ } [البقرة : 213] على صدقه { بَغْيَا بَيْنَهُمْ } [الجاثية : 17] مفعول له أي حسداً بينهم وظلماً لحرصهم على الدنيا وقلة إنصاف منهم { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } [البقرة : 213] أي هدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف فيه { مِنَ الْحَقِّ } [البقرة : 213] بيان لما اختلفوا فيه { بِإِذْنِهِ } بعلمه { وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [البقرة : 213] { أَمْ حَسِبْتُمْ } [التوبة : 16] أم منقطعة لا متصلة لأن شرطها أن يكون قبلها همزة الاستفهام كقولك ” أعندك زيد أم عمرو ” أي أيهما عندك؟ وجوابه زيد إن كان عنده زيد ، أوعمرو إن كان عنده عمرو.
وأما ” أم ” المنقطعة فتقع بعد الاستفهام وبعد الخبر وتكون بمعنى بل والهمزة ، والتقدير : بل أحسبتم ومعنى الهمزة فيها للتقرير وإنكار الحسبان واستبعاده.
لما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف على النبيين بعد مجيء البينات
169

(1/115)


تشجيعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين على الثبات والصبر مع الذين اختلفوا عليه من المشركين وأهل الكتاب وإنكارهم لآياته وعداوتهم له ، قال لهم على طريقة الالتفات التي هي أبلغ أم حسبتم { أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم } [البقرة : 214] أي ولم يأتكم وفي لما معنى التوقع يعني أن إتيان ذلك متوقع منتظر.
{ مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا } [البقرة : 214] مضوا أي حالهم التي هي مثل في الشدة { مِن قَبْلِكُمْ } [المائدة : 5] من النبيين والمؤمنين { مَّسَّتْهُمُ } بيان للمثل وهو استئناف كأن قائلاً قال : كيف كان ذلك المثل فقيل : مستهم { الْبَأْسَآءِ } أي البؤس { وَالضَّرَّآءِ } المرض والجوع { وَزُلْزِلُوا } وحركوا بأنواع البلايا وأزعجوا إزعاجاً شديداً شبيهاً بالزلزلة { حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ } [البقرة : 214] إلى الغاية التي قال الرسول ومن معه من المؤمنين فيها { مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } [البقرة : 214] أي بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك ، ومعناه طلب النصر وتمنيه واستطالة زمان الشدة فقيل لهم { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [البقرة : 214] إجابة لهم إلى طلبهم من عاجل النصر.
يقول بالرفع : نافع على حكاية حال ماضية نحو ” شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنه ” .
وغيره بالنصب على إضمار ” أن ” ومعنى الاستقبال لأن ” أن علم له.
ولما قال عمرو بن الجموح وهو شيخ كبير وله مال عظيم : ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ نزل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 165
{ يَسْـاَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالاقْرَبِينَ وَالْيَتَـامَى وَالْمَسَـاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } [البقرة : 215] فقد تضمن قوله ما أنفقتم من خير بيان ما ينفقونه وهو كل خير ، وبنى الكلام على ما هو أهم وهو بيان المصرف لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها عن الحسن هي في التطوع { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [البقرة : 215] فيجزى عليه { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } [البقرة : 246] فرض عليكم جهاد الكفار { وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } [البقرة : 216]
170
من الكراهة فوضع المصدر موضع الوصف مبالغة كقولها :
فإنما هي إقبال وإدبار كأنه في نفسه كراهة لفرط كراهتهم له أوهو فعل بمعنى مفعول كالخبز بمعنى المخبوز أي وهو مكروه لكم { وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة : 216] فأنتم تكرهون الغزو وفيه إحدى الحسنيين إما الظفر والغنيمة وإما الشهادة والجنة { وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا } [البقرة : 216] وهو القعود عن الغزو { وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } [البقرة : 216] لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر { وَاللَّهُ يَعْلَمُ } [محمد : 26] ما هو خير لكم { وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 216] ذلك فبادروا إلى ما يأمركم به وإن شق عليكم ، ونزل في سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقاتلوا المشركين وقد أهل هلال رجب وهم لا يعلمون ذلك فقالت قريش : قد استحل محمد عليه السلام الشهر الحرام شهراً يأمن فيه الخائف.
جزء : 1 رقم الصفحة : 170
{ يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } [البقرة : 217] أي يسألك الكفار أو المسلمون عن القتال في الشهر الحرام.
{ قِتَالٍ فِيهِ } [البقرة : 217] بدل الاشتمال من الشهر .
وقرىء عن قتال فيه على تكرير العامل كقوله : للذين استضعفوا لمن آمن منهم.
{ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } [البقرة : 217] أي إثم كبير.
قتال مبتدأ وكبير خبره وجاز الابتداء بالنكرة لأنها قد وصفت بـ فيه وأكثر الأقاويل على أنها منسوخة بقوله تعالى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة : 5] (التوبة : 5).
{ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [البقرة : 217] أي منع المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه عن البيت عام الحديبية وهو مبتدأ { وَكُفْرُ بِهِ } [البقرة : 217] أي بالله عطف على صد { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [الحج : 25] عطف على سبيل الله أي وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام.
وزعم الفراء أنه معطوف على الهاء في به أي كفر به وبالمسجد الحرام ، ولا
171

(1/116)


يجوز عن البصريين العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار فلا تقول : مررت به وزيد ولكن تقول وبزيد ، ولو كان معطوفاً على الهاء هنا لقيل وكفر به وبالمسجد الحرام.
{ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } [البقرة : 217] أي أهل المسجد الحرام وهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنون وهو عطف على صد أيضاً { مِنْهُ } من المسجد الحرام وخبر الأسماء الثلاثة { أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ } [البقرة : 217] أي مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام على سبيل الخطإ والبناء على الظن { وَالْفِتْنَةُ } الإخراج أو الشرك { أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } [البقرة : 217] في الشهر الحرام ، أو تعذيب الكفار المسلمين أشد قبحاً من قتل هؤلاء المسلمين في الشهر الحرام { وَلا يَزَالُونَ يُقَـاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ } [البقرة : 217] أي إلى الكفر وهو إخبار عن دوام عداوة الكفار للمسلمين وأنهم لا ينفكون عنها حتى يردوهم عن دينهم.
وحتى } معناها التعليل نحو ” فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة ” أي يقاتلونكم كي يردوكم.
وقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 170
{ إِنِ اسْتَطَـاعُوا } [البقرة : 217] استبعاد لاستطاعتهم كقولك لعدوك ” إن ظفرت بي فلا تبق علي ” وأنت واثق بأنه لا يظفر بك { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } [البقرة : 217] ومن يرجع عن دينه إلى دينهم { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ } [البقرة : 217] أي يمت على الردة { فَأُوالَـائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ } [البقرة : 217] لما يفوتهم بالردة مما للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام وفي الآخرة من الثواب وحسن المآب { وَأُوالَـائِكَ أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ } [البقرة : 217] وبها احتج الشافعي رحمه الله على أن الردة لا تحبط العمل حتى يموت عليها.
وقلنا : قد علق الحبط بنفس الردة بقوله تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بِالايمَـانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [المائدة : 5] (المائدة : 5) والأصل عندنا أن المطلق لا يحمل على المقيد ، وعنده يحمل عليه فهو بناء على هذا.
ولما قالت السرية أيكون لنا أجر المجاهدين في سبيل الله نزل { إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا } [البقرة : 218] تركوا مكة وعشائرهم { وَجَـاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [البقرة : 218] المشركين ولا وقف عليه لأن { أُوالَـائِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ } خبر ” إن ” .
قيل : من رجا طلب ومن خاف هرب { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة : 218] نزل في الخمر أربع آيات نزل بمكة :
172
{ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالاعْنَـابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } [النحل : 67] (النحل : 76).
فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال ، ثم إن عمر ونفراً من الصحابة قالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزل :
جزء : 1 رقم الصفحة : 170

(1/117)


{ يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } [البقرة : 219] فشربها قوم وتركها آخرون ، ثم دعا عبد الرحمن بن عوف جماعة فشربوا وسكروا فأم بعضهم فقرأ ” قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ” فنزل { لا تَقْرَبُوا الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَـارَى } [النساء : 43] (النساء : 34) فقل من يشربها ، ثم دعا عتبان بن مالك جماعة فلما سكروا منها تخاصموا وتضاربوا فقال عمر : اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزل { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } [المائدة : 90] إلى قوله { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } [المائدة : 91] (المائدة : 19) فقال عمر : انتهينا يا رب.
وعن علي رضي الله عنه : لو وقعت قطرة في بئر فبنيت مكانها منارة لم أؤذن عليها ، ولو وقعت في بحر ثم جف ونبت فيه الكلأ لم أرعه.
والخمر ما غلى واشتد وقذف بالزبد منع عصير العنب ، وسميت بمصدر خمره خمراً إذا ستره لتغطيتها العقل.
والميسر القمار مصدر من يسر كالموعد من فعله يقال يسرته إذا أقمرته ، واشتقاقه من اليسر لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة بلا كد وتعب ، أو من اليسار كأنه سلب يساره.
وصفة الميسر أنه كانت لهم عشرة أقداح سبعة منها عليها خطوط وهو الفذ وله سهم ، والتوأم وله سهمان ، والرقيب وله ثلاثة ، والحلس وله أربعة ، والنافس وله خمسة ، والمسبل وله ستة ، والمعلى وله سبعة ، وثلاثة أغفال لا نصيب لها وهي المنيح والسفيح والوغد ، فيجعلون الأقداح
173
جزء : 1 رقم الصفحة : 173
في خريطة ويضعونها على يد عدل ثم يجلجلها ويدخل يده ويخرج باسم رجل قدحاً قدحاً منها ، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح ما لا نصيب له لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كله ، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ، وفي حكم الميسر أنواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما ، والمعنى يسألونك عما في تعاطيهما بدليل { قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } [البقرة : 219] بسبب التخاصم والتشاتم وقول الفحش والزور كثير : حمزة وعلي.
{ وَمَنَـافِعُ لِلنَّاسِ } [البقرة : 219] بالتجارة في الخمر والتلذذ بشربها ، وفي الميسر بارتقاق الفقراء أو نيل المال بلا كد { وَإِثْمُهُمَآ } وعقاب الإثم في تعاطيهما { أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [البقرة : 219] لأن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيها الآثام من وجوه كثيرة.
{ وَيَسْـاَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } [البقرة : 219] أي الفضل أي أنفقوا ما فضل عن قدر الحاجة ، وكان التصدق بالفضل في أول الإسلام فرضاً فإذا كان الرجل صاحب زرع أمسك قوت سنة وتصدق بالفضل ، وإذا كان صانعاً أمسك قوت يومه وتصدق بالفضل فنسخت بآية الزكاة.
العفو : أبو عمرو ؛ فمن نصبه جعل ماذا اسماً واحداً في موضع النصب بـ ينفقون والتقدير : قل ينفقون العفو ، ومن رفعه جعل ما مبتدأ وخبره ذا مع صلته فذا بمعنى ” الذين ” وينفقون صلته أي ما الذي ينفقون فجاء الجواب العفو أي هو العفو فإعراب الجواب كإعراب السؤال ليطابق الجواب السؤال.
{ كَذَالِكَ } الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف أي تبييناً مثل هذا التبيين { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الايَـاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِى الدُّنْيَا } أي في أمر الدنيا { وَالاخِرَةِ } وفي يتعلق بتتفكرون أي تتفكرون فيما يتعلق بالدارين فتأخذون بما أصلح لكم ، أو تتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع ، ويجوز أن يتعلق بـ يبين أي يبين لكم الآيات في أمر الدارين وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون.
ولما نزل { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا } [النساء : 10] (النساء : 01) اعتزلوا اليتامى وتركوا
174
جزء : 1 رقم الصفحة : 173

(1/118)


مخالطتهم والقيام بأموالهم وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فنزل.
{ فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْيَتَـامَى قُلْ } [البقرة : 220] أي مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم { وَإِن تُخَالِطُوهُمْ } [البقرة : 220] وتعاشروهم ولم تجانبوهم { فَإِخْوَانُكُمْ } فهم إخوانكم في الدين ومن حق الأخ أن يخالط أخاه { وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ } [البقرة : 220] لأموالهم { مِنَ الْمُصْلِحِ } [البقرة : 220] لها فيجازيه على حسب مداخلته فاحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ } [البقرة : 220] إعناتكم { لاعْنَتَكُمْ } لحملكم على العنت وهو المشقة وأحرجكم فلم يطلق لكم مداخلتهم { أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } [البقرة : 209] غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم { حَكِيمٌ } لا يكلف إلا وسعهم وطاقتهم.
ولما سأل مرثد النبي صلى الله عليه وسلّم عن أن يتزوج عناق وكانت مشركة نزل { وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَـاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } [البقرة : 221] أي لا تتزوجوهن.
يقال نكح إذا تزوج وأنكح غيره زوجه { وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } [البقرة : 221] ولو كان الحال أن المشركة تعجبكم وتحبونها { وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ } [البقرة : 221] ولا تزوجوهم بمسلمة كذا قاله الزجاج.
وقال جامع العلوم : حذف أحد المفعولين والتقدير ولا تنكحوهن المشركين { حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } [البقرة : 221].
ثم بين علة ذلك فقال { أُوالَـائِكَ } وهو إشارة إلى المشركات والمشركين { يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } [البقرة : 221] إلى الكفر الذي هو عمل أهل النار فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا { وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ } [البقرة : 221] أي وأولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة والمغفرة وما يوصل إليهما فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم { بِإِذْنِهِ } بعلمه أو بأمره { وَيُبَيِّنُ ءَايَـاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [البقرة : 221] يتعظون.
جزء : 1 رقم الصفحة : 173
كانت العرب لم يؤاكلوا الحائض ولم يشاربوها ولم يساكنوها كفعل اليهود
175
والمجوس ، فسأل أبو الدحداح رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن ذلك وقال : يا رسول الله كيف نصنع بالنساء إذا حضن؟ فنزل { وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ } [البقرة : 222] هو مصدر يقال حاضت محيضاً كقولك ” جاء مجيئاً ” { قُلْ هُوَ أَذًى } [البقرة : 222] أي المحيض شيء يستقذر ويؤذي من يقربه { فَاعْتَزِلُوا النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ } [البقرة : 222] فاجتنبوهن أي فاجتنبوا مجامعتهن.
وقيل : إن النصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض ، واليهود كانوا يعتزلونهن في كل شيء ، فأمر الله بالاقتصاد بين الأمرين.
ثم عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله يجتنب ما اشتمل عليه الإزار ، ومحمد رحمه الله لا يوجب إلا اعتزال الفرج.
وقالت عائشة رضي الله عنها : يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك.
{ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ } [البقرة : 222] مجامعين أو ولا تقربوا مجامعتهن { حَتَّى يَطْهُرْنَ } [البقرة : 222] بالتشديد كوفي غير حفض أي يغتسلن وأصله ” يتطهرون ” فأدغم التاء في الطاء لقرب مخرجيهما.
غيرهم يطهرن أي ينقطع دمهن ، والقراءتان كآيتين فعملنا بهما وقلنا له أن يقربها في أكثر الحيض بعد انقطاع الدم وإن لم تغتسل عملاً بقراءة التخفيف ، وفي أقل منه لا يقربها حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت الصلاة عملاً بقراءة التشديد ، والحمل على هذا أولى من العكس لأنه حينئذ يجب ترك العمل بإحداهما لما عرف ، وعند الشافعي رحمه الله لا يقربها حتى تطهر وتتطهر دليله قوله تعالى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ } [البقرة : 222] فجامعوهن فجمع بينهما { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } [البقرة : 222] من المأتى الذي أمركم الله به وحلله لكم وهو القبل { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } [البقرة : 222] من ارتكاب ما نهوا عنه أو العوادين إلى الله تعالى وإن زلوا فزلوا والمحبة لمعرفته بعظم عفو الله حيث لا ييأس { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [البقرة : 222] بالماء أو المتنزهين من أدبار النساء أو من الجماع في الحيض أو من الفواحش.

(1/119)


جزء : 1 رقم الصفحة : 173
كان اليهود يقولون إذا أتى الرجل أهله باركة أتى الولد أحول فنزل { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } [البقرة : 223] مواضع حرث لكم وهذا مجاز شبهن بالمحارث
176
تشبيهاً لما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بالبذور والولد بالنبات ، ووقع قوله نساؤكم حرث لكم بياناً وتوضيحاً لقوله : فأتوهن من حيث أمركم الله .
أي إن المأتى الذي أمركم الله به هو مكان الحرث لا مكان الفرث تنبيهاً على أن المطلوب الأصلي في الإتيان هو طلب النسل لإقضاء الشهوة فلا تأتوهن إلا من المأتي الذي نيط به هذا المطلوب { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } [البقرة : 223] جامعوهن متى شئتم أو كيف شئتم باركة أو مستلقية أو مضطجعة بعد أن يكون المأتي واحداً وهو موضع الحرث وهو تمثيل ، أي فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم لا يحظر عليكم جهة دون جهة.
وقوله : هو أذى فاعتزلوا النساء ، من حيث أمركم الله فأتوا حرثكم أنى شئتم .
من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة ، فعلى كل مسلم أن يتأدب بها ويتكلف مثلها في المحاورات والمكاتبات { وَقَدِّمُوا لانفُسِكُمْ } [البقرة : 223] ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة وما هو خلاف ما نهيتم عنه ، أو هو طلب الولد أو التسمية على الوطء { وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] فلا تجترئوا على المناهي { وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَـاقُوهُ } [البقرة : 223] صائرون إليه فاستعدوا للقائه { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [البقرة : 223] بالثواب يا محمد.
وإنما جاء يسألونك ثلاث مرات بلا واو ثم مع الواو ثلاثاً لأن سؤالهم عن تلك الحوارث الأول كأنه وقع في أحوال متفرقة فلم يؤت بحرف العطف لأن كل واحد من السؤالات سؤال مبتدأ ، وسألوا عن الحوادث الأخر في وقت واحد فجيء بحرف الجمع.
لذلك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 173
{ وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لايْمَـانِكُمْ } [البقرة : 224] العرضة فعلة بمعنى مفعول كالقبضة وهي اسم ما تعرضه دون الشيء من عرض العود على الإناء فيتعرض دونه ويصير حاجزاً ومانعاً منه.
تقول فلان عرضة دون الخير ، وكان الرجل يحلف على بعض الخيرات من صلة رحم أو إصلاح ذات بين أو إحسان إلى أحد أوعبادة ثم يقول : أخاف الله أن أحنث في يميني فيترك البرّ إرادة البر في يمينه فقيل لهم ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أي حاجزاً لما حلفتم عليه ، وسمي المحلوف عليه يميناً بتلبسه باليمين كقوله عليه السلام من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً
177
منها فليكفر عن يمينه .
وقوله { أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ } [البقرة : 224] عطف بيان لأيمانكم أي للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والإصلاح بين الناس.
واللام تتعلق بالفعل أي ولا تجعلوا الله لأيمانكم برزخاً ، ويجوز أن تكون اللام للتعليل ويتعلق أن تبروا بالفعل أو بالعرضة أي ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا واللّه سميعٌ لأيمانكم عليمٌ بنياتكم.
{ لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَـانِكُمْ } [البقرة : 225] اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره ، ولغو اليمين الساقط الذي لا يعتد به في الأيمان وهو أن يحلف على شيء يظنه على ما حلف عليه والأمر بخلافه ، والمعنى لا يعاقبكم بلغوا اليمين الذي يحلفه أحدكم ، وعند الشافعي رحمه الله هو ما يجري على لسانه من غير قصد للحلف نحو ” لا والله ” و ” بلى والله ” .
جزء : 1 رقم الصفحة : 177

(1/120)


{ وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم } [المائدة : 89] ولكن يعاقبكم { بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [البقرة : 225] بما اقترفته من إثم القصد إلى الكذب في اليمين وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهو اليمين الغموس ، وتعلق الشافعي بهذا النص على وجوب الكفارة في الغموس لأن كسب القلب العزم والقصد ، والمؤاخذة غير مبينة هنا وبينت في المائدة فكان البيان ثمة بياناً هنا ، وقلنا : المؤاخذة هنا مطلقة.
وهي في دار الجزاء والمؤاخذة ثم مقيدة بدار الابتلاء فلا يصح حمل البعض على البعض { وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [البقرة : 225] حيث لم يؤاخذكم باللغو في أيمانكم.
{ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ } [البقرة : 226] يقسمون وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنه ومن في { مِن نِّسَآئِهِمْ } [البقرة : 226] يتعلق بالجار والمجرور أي للذين كما تقول لك مني نصرة ولك مني معونة أي للمؤلين من نسائهم { تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } [البقرة : 226] أي استقر للمؤلين ترقب أربعة أشهر لا بـ يؤلون لأن آلى يعدّى بـ ” على ” يقال آلى فلان على امرأته ، وقول القائل ” آلى فلان من امرأته ” وهم توهمه من هذه الآية.
ولك أن تقول عدّي بـ ” من ” لما في هذا القسم من معنى البعد فكأنه قيل : يبعدون من نسائهم { فَإِن فَآءُو } [البقرة : 226] في الأشهر لقراءة عبد الله فإن فاءوا فيهن أي رجعوا إلى الوطء عن الإصرار بتركه { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة : 192] حيث شرع الكفارة
178
{ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَـاقَ } [البقرة : 227] بترك الفيء فتربصوا إلى مضي المدة { فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } [البقرة : 227] لايلائه { عَلِيمٌ } بنيته وهو وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة ، وعند الشافعي رحمه الله معناه فإن فاءوا وإن عزموا بعد مضي المدة لأن الفاء للتعقيب.
وقلنا قوله : فإن فاءوا ” .
وإن عزموا تفصيل لقوله للذين يؤلون من نسائهم والتفصيل يعقب المفصل كما تقول : أنا نزيلكم هذا الشهر فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره وإلا لم أقم إلا ريثما أتحول.
{ وَالْمُطَلَّقَـاتُ } أراد المدخول بهن من ذوات الأقراء.
{ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ } [البقرة : 234] خبر في معنى الأمر وأصل الكلام ولتتربص المطلقات ، وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجوداً ، ونحوه قولهم في الدعاء ” رحمك الله ” أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها.
وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضاً فضل تأكيد لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبات بخلاف الفعلية.
وفي ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث ، لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص.
جزء : 1 رقم الصفحة : 177
{ ثَلَـاثَةَ قُرُواءٍ } [البقرة : 228] جمع قرء أو قرء وهو الحيض لقوله عليه السلام دعي الصلاة أيام أقرائك وقوله طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان ولم يقل طهران.
وقوله تعالى : { وَالَّـاـاِى يَـاـاِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآ ـاِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَـاثَةُ أَشْهُرٍ } [الطلاق : 4] (الطلاق : 4).
فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار ، ولأن المطلوب من العدة استبراء الرحم والحيض هو الذي يستبرأ به الأرحام دون الطهر ولذلك كان الاستبراء من الأمة بالحيضة ، ولأنه لو كان ظهراً ـــــ كما قال الشافعي ـــــ لانقضت العدة بقرأين وبعض الثالث فانتقص العدد عن الثلاثة ، لأنه إذا طلقها لآخر الطهر فذا محسوب من العدة عنده ، وإذا طلقها في آخر الحيض فذا غير مسحوب من العدة عندنا ، والثلاث اسم
179
خاص لعدد مخصوص لا يقع على ما دونه.
ويقال أقرأت المرأة إذا حاضت وامرأة مقرىء.
وانتصاب ثلاثة على أنه مفعول به أي يتربصن مضي ثلاثة قروء أو على الظرف أي يتربصن مدة ثلاثة قروء ، وجاء المميز على جمع الكثرة دون القلة التي هي الأقراء لاشتراكهما في الجمعية اتساعاً ، ولعل القروء كانت أكثر استعمالاً في جمع قرء من الأقراء فأوثر عليه تنزيلاً لقليل الاستعمال منزلة المهمل.

(1/121)


{ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ } [البقرة : 228] من الولد أو من دم الحيض أو منهما ، وذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع ، ولئلا يشفق على الولد فيترك تسريحها ، أو كتمت حيضها وقالت ـــــ وهي حائض ـــــ قد طهرت استعجالاً للطلاق ، ثم عظم فعلهن فقال { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } [البقرة : 228] لأن من آمن بالله وبعقابه لا يجترىء على مثله من العظائم { وَبُعُولَتُهُنَّ } البعول جمع بعل والتاء لاحقة لتأنيث الجمع { أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } [البقرة : 228] أي أزواجهن أولى برجعتهن ، وفيه دليل أن الطلاق الرجعي لا يحرم الوطء حيث سماه زوجاً بعد الطلاق { فِي ذَالِكَ } [البقرة : 228] في مدة ذلك التربص ، والمعنى أن الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها وكان هو أحق منها لا أن لها حقاً في الرجعة { إِنْ أَرَادُوا إِصْلَـاحًا } لما بينهم وبينهن وإحساناً إليهن ولم يريدوا مضارتهن { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ } [البقرة : 228] ويجب لهن من الحق على الرجال من المهر والنفقة وحسن العشرة وترك المضارة مثل الذي يجب لهم عليهن من الأمر والنهي { بِالْمَعْرُوفِ } بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس ، فلا يكلف أحد الزوجين صاحبه ما ليس له.
والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب الواجب في كونه حسنة لا في جنس الفعل ، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل نحو ذلك ولكن يقابله بما يليق بالرجال { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } [البقرة : 228] زيادة في الحق وفضيلة بالقيام بأمرها وإن اشتركا في اللذة والاستمتاع أو بالإنفاق وملك النكاح { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } [البقرة : 228] لا يعترض عليه في أموره { حَكِيمٌ } لا يأمر إلا بما هو صواب وحسن.
جزء : 1 رقم الصفحة : 177
{ الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِ } [البقرة : 229] الطلاق بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم أي
180
التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع ، والإرسال دفعة واحدة.
ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير كقوله { ثُمَّ اْرجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } [الملك : 4] (الملك : 4) أي كرة بعد كرة لا كرتين اثنتين وهو دليل لنا في أن الجمع بين الطلقتين والثلاثة بدعة في طهر واحد ، لأن الله تعالى أمرنا بالتفريق لأنه وإن كان ظاهره الخبر فمعناه الأمر وإلا يؤدي إلى الخلف في خبر الله تعالى ، لأن الطلاق على وجه الجمع قد يوجد.
وقيل : قالت أنصارية : إن زوجي قال : لا أزال أطلقك ثم أراجعك فنزلت الطلاق مرتان أي الطلاق الرجعي مرتان لأنه لا رجعة بعد الثالث
جزء : 1 رقم الصفحة : 180

(1/122)


{ فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ } [البقرة : 229] برجعة ، والمعنى فالواجب عليكم إمساك بمعروف { أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَـانٍ } [البقرة : 229] بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدة.
وقيل : بأن يطلقها الثالثة في الطهر الثالث.
ونزل في جميلة وزوجها ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها وقد أعطاها حديقة فاختلعت منه بها وهو أول خلع كان في الإسلام { وَلا يَحِلُّ لَكُمْ } [البقرة : 229] أيها الأزواج أو الحكام لأنهم الآمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم الآخذون والمؤتون { أَن تَأْخُذُوا مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا } [البقرة : 229] مما أعطيتموهن من المهور { إِلا أَن يَخَافَآ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } [البقرة : 229] إلا أن يعلم الزوجان ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من مواجب الزوجية لما يحدث من نشوز المرأة وسوء خلقها { فَإِنْ خِفْتُمْ } [النساء : 3] أيها الولاة ، وجاز أن يكون أول خطاب للأزواج وآخره للحكام { أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } [البقرة : 229] فلا جناح على الرجل فيما أخذ ولا عليها فيما أعطت { فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } [البقرة : 229] فيما افتدت به نفسها واختلعت به من بذل ما أوتيت من المهر.
إلا أن يخافا حمزة على البناء للمفعول وإبدال ألا يقيما من ألف الضمير وهو من بدل الاشتمال نحو ” خيف زيد تركه إقامة حدود الله ” .
{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } [البقرة : 229] أي ما حد من النكاح واليمين والإيلاء والطلاق والخلع وغير ذلك { فَلا تَعْتَدُوهَا } [البقرة : 229] فلا تجاوزوها بالمخالفة { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوالَـائِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ } [البقرة : 229] الضارون أنفسهم.
{ فَإِن طَلَّقَهَا } [البقرة : 230] مرة ثالثة بعد المرتين ، فإن قلت الخلع طلاق عندنا وكذا
181
عند الشافعي رحمه الله في قول ، فكأن هذه تطليقة رابعة.
قلت : الخلع طلاق ببدل فيكون طلقة ثالثة ، وهذه بيان لتلك أي فإن طلقها الثالثة ببدل فحكم التحليل كذا { فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 180
البقرة : 230] من بعد التطليقة الثالثة { حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } [البقرة : 230] حتى تتزوج غيره.
والنكاح يسند إلى المرأة كما يسند إلى الرجل كالتزوج ، وفيه دليل على أن النكاح ينعقد بعبارتها ، والإصابة شرطت بحديث العسيلة كما عرف في أصول الفقه ، والفقه فيه أنه لما أقدم على فراق لم يبق للندم مخلصاً لم تحل له إلا بدخول فحل عليها ليمتنع عن ارتكابه { فَإِن طَلَّقَهَا } [البقرة : 230] الزوج الثاني بعد الوطء { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ } [البقرة : 230] على الزوج الأول وعليها { أَن يَتَرَاجَعَآ } [البقرة : 230] أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه بالزواج { إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } [البقرة : 230] إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية ولم يقل إن علما أنهما يقيمان لأن اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا الله { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا } [البقرة : 230] وبالنون : المفضل { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [البقرة : 230] يفهمون ما بين لهم.
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } [البقرة : 231] أي آخر عدتهن وشارفن منتهاها ، والأجل يقع على المدة كلها وعلى آخرها.
يقال لعمر الإنسان أجل ، وللموت الذي ينتهى به أجل.
{ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [البقرة : 231] أي فإما أن يراجعها من غير طلب ضرار بالمراجعة ، وإما أن يخليها حتى تنقضي عدتها وتبين من غير ضرار { وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا } [البقرة : 231] مفعول له أو حال أي مضارين ، وكان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى يقرب انقضاء عدتها ثم يراجعها لا عن حاجة ولكن ليطوّل العدة عليها فهو الإمساك ضراراً { لِّتَعْتَدُوا } لتظلموهن أو لتلجئوهن إلى الافتداء { وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ } [النساء : 114] يعني الإمساك للضرار { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } [الطلاق : 1] بتعريضها لعقاب الله { وَلا تَتَّخِذُوا ءَايَـاتِ اللَّهِ هُزُوًا } [البقرة : 231] أي جدوا بالأخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها وإلا فقد اتخذتموها هزواً.
يقال لمن لم يجد في الأمر إنما أنت لاعب وهازىء
جزء : 1 رقم الصفحة : 180

(1/123)


{ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } [البقرة : 231] بالإسلام وبنبوة محمد عليه السلام { وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَـابِ وَالْحِكْمَةِ } [البقرة : 231] من القرآن والسنة وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقها { يَعِظُكُم بِهِ } [النساء : 58] بما أنزل
182
عليكم وهو حال { وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] فيما امتحنكم به { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة : 231] من الذكر والاتقاء والاتعاظ وغير ذلك وهو أبلغ وعد ووعيد.
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } [البقرة : 231] أي انقضت عدتهن فدل سياق الكلامين على افتراق البلوغين لأن النكاح يعقبه هنا وذا يكون بعد العدة ، وفي الأولى الرجعة وذا يكون في العدة { فَلا تَعْضُلُوهُنَّ } [البقرة : 232] فلا تمنعوهن.
العضل : المنع والتضييق { أَن يَنكِحْنَ } [البقرة : 232] من أن ينكحن { أَزْوَاجَهُنَّ } الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهن ، وفيه إشارة إلى انعقاد النكاح بعبارة النساء ، والخطاب للأزواج الذي يعضلون نساءهم بعد انقضاء العدة ظلماً ولا يتركونهن يتزوجن من شئن من الأزواج ، سموا أزواجاً باسم ما يؤول إليه.
أو للأولياء في عضلهن أن يرجعن إلى أزواجهن الذين كانوا أزواجاً لهن ، سموا أزواجاً باعتبار ما كان.
نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته أن ترجع إلى الزوج الأول.
أو للناس أي لا يوجد فيما بينكم عضل لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين { إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم } [البقرة : 232] إذا تراضى الخطاب والنساء { بِالْمَعْرُوفِ } بما يحسن في الدين والمروءة من الشرائط ، أو بمهر المثل والكفء لأن عند عدم أحدهما للأولياء أن يتعرضوا.
والخطاب في { ذَالِكَ } للنبي صلى الله عليه وسلّم أو لكل واحد { يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } [البقرة : 232] فالموعظة إنما تنجع فيهم { ذالِكُمْ } أي ترك العضل والضرار { أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } [البقرة : 232] أي لكم من أدناس الآثام أو أزكى وأطهر وأفضل وأطيب { وَاللَّهُ يَعْلَمُ } [محمد : 26] ما في ذلك من الزكاء والطهر { وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 216] ذلك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 180
جزء : 1 رقم الصفحة : 183
{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ } [البقرة : 233] خبر في معنى الأمر المؤكد كـ { يَتَرَبَّصْنَ } وهذا
183

(1/124)


الأمر على وجه الندب أو على وجه الوجوب إذا لم يقبل الصبي إلا ثدي أمه ، أو لم توجد له ظئر ، أو كان الأب عاجزاً عن الاستئجار ، أو أراد الوالدات المطلقات وإيجاب النفقة والكسوة لأجل الرضاع { حَوْلَيْنِ } ظرف { كَامِلَيْنِ } تأمين وهو تأكيد لأنه مما يتسامح فيه فإنك تقول : أقمت عند فلان حولين ولم تستكملهما { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [البقرة : 233] بيان لمن توجه إليه الحكم أي هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاعة.
والحاصل أن الأب يجب عليه إرضاع ولده دون الأم ، وعليه أن يتخذ له ظئراً إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه ، ولا يجوز استئجار الأم ما دامت زوجة أو معتدة { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ } [البقرة : 233] الهاء يعود إلى اللام الذي بمعنى ” الذي ” ، والتقدير : وعلى الذي يولد له وهو الوالد ، وله في محل الرفع على الفاعلية كـ ” عليهم ” في { الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة : 7] (الفاتحة : 7) وإنما قيل على المولود له دون الوالد ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهم إذ الأولاد للآباء والنسب إليهم لا إليهن فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم كالأظار ، ألاى ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى وهو قوله : { وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شيئا } [لقمان : 33] (لقمان : 33) { رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [البقرة : 233] بلا إسراف ولا تقتير ، وتفسيره ما يعقبه وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضارا { لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا } [البقرة : 233] وجدها أو قدر إمكانها.
والتكليف إلزام ما يؤثره في الكلفة.
وانتصاب وسعها على أنه مفعول ثانٍ لـ تكلف لا على الاستثناء ودخلت إلا بين المفعولين.
{ لا تُضَآرَّ } [البقرة : 233] مكي وبصري بالرفع على الإخبار ومعناه النهي وهو يحتمل البناء للفاعل والمفعول وأن يكون الأصل ” تضارر ” بكسر الراء أو ” تضارر ” بفتحها.
الباقون لا تضار على النهي والأصل ” تضارر ” أسكنت الراء الأولى وأدغمت في الثانية فالتقى الساكنان ففتحت الثانية لالتقاء الساكنين
جزء : 1 رقم الصفحة : 183
{ وَالِدَةُ بِوَلَدِهَا } [البقرة : 233] أي لا تضار والدة زوجها بسبب ولدها وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة ، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد ، وأن تقول بعدما ألفها الصبي أطلب له ظئر أو ما أشبه ذلك { وَلا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } [البقرة : 233] أي ولا يضار مولود له امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئاً مما وجب عليه من رزقها وكسوتها أو يأخذه منها وهي تريد إرضاعه.
وإذا كان مبنياً للمفعول فهو نهي عن أن يلحق بها الضرار
184

(1/125)


من قبل الزوج ، وعن أن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد ، أو تضار بمعنى تضر والباء من صلته أي لا تضر والدة ولدها فلا تسيء غذاءه وتعهده ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها ، ولا يضر الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حق الولد.
وإنما قيل بولدها وبولده لأنه لما نهيت المرأة عن المضارة أضيف إليها الولد استعطافاً لها عليه وكذلك الوالد { وَعَلَى الْوَارِثِ } [البقرة : 233] عطف على قوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن وما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف والمعطوف عليه أي وعلى وارث الصبي عند عدم الأب مثل ذلك أي مثل الذي كان على أبيه في حياته من الرزق والكسوة.
واختلف فيه ؛ فعند ابن أبي ليلى : كل من ورثه ، وعندنا : من كان ذا رحم محرم منه لقراءة ابن مسعود رضي الله عنه وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك ، وعند الشافعي رحمه الله : لا نفقة فيما عدا الولاد.
{ فَإِنْ أَرَادَا } [البقرة : 233] يعني الأبوين { فِصَالا } فطاماً صادراً { عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ } [البقرة : 233] بينهما { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ } [البقرة : 230] في ذلك زادا على الحولين أو نقصا ، وهذه توسعة بعد التحديد ، والتشاور استخراج الرأي من شرت العسل إذا استخرجته ، وذكره ليكون التراضي عن تفكر فلا يضر الرضيع ، فسبحان الذي أدب الكبير ولم يهمل الصغير واعتبر اتفاقهما ، لأن للأب النسبة والولاية وللأم الشفقة والعناية.
{ وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَـادَكُمْ } [البقرة : 233] أي لأولادكم عن الزجاج.
وقيل : استرضع منقول من أرضع ، يقال أرضعت المرأة الصبي واسترضعتها الصبي معدّى إلى مفعولين أي أن تسترضعوا المراضع أولادكم فحذف أحد المفعولين يعني غير الأم عند إبائها أو عجزها
جزء : 1 رقم الصفحة : 183
{ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم } [البقرة : 233] إلى المراضع { مَّآ ءَاتَيْتُم } [البقرة : 233] ما أردتم إيتاءه من الأجرة.
أتيتم مكي من أتى إليه إحساناً إذا فعله ومنه قوله { كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا } [مريم : 61] (مريم : 16) أي مفعولاً ، والتسليم ندب لا شرط للجواز { بِالْمَعْرُوفِ } متعلق بـ سلمتم أي سلمتم الأجرة إلى المراضع بطيب نفس وسرور { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [البقرة : 233] لا تخفى عليه أعمالكم فهو يجازيكم عليها.
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } [البقرة : 234] تقول توفيت الشيء واستوفيته إذا أخذته وافياً تاماً
185
أي تستوفى أرواحهم { وَيَذَرُونَ } ويتركون { أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ } [البقرة : 234] أي وزوجات الذين يتوفون منكم يتربصن أي يعتددن ، أو معناه يتربصن بعدهم بأنفسهن فحذف بعدهم للعلم به.
وإنما احتيج إلى تقديره لأنه لا بد من عائد يرجع إلى المبتدأ في الجملة التي وقعت خبراً.
يتوفون : المفضل أي يستوفون آجالهم { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } [البقرة : 234] أي وعشر ليال والأيام داخلة معها ولا يستعمل التذكير فيه ذهاباً إلى الأيام تقول صمت عشراً ولو ذكرت لخرجت من كلامهم { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } [الطلاق : 2] فإذا انقضت عدتهن { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } [البقرة : 233] أيها الأئمة والحكام { فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ } [البقرة : 234] من التعرض للخاطب { بِالْمَعْرُوفِ } بالوجه الذي لا ينكره الشرع { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [البقرة : 234] عالم بالبواطن.
{ وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ } [البقرة : 235] الخطبة الاستنكاح ، والتعريض أن تقول لها إنك لجميلة أو صالحة ومن غرضي أن أتزوج ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه ، ولا يصرح بالنكاح فلا يقول إني أريد أن أتزوجك.
والفرق بين الكناية والتعريض أن الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له ، والتعريض أن تذكر شيئاً تدل به على شيء لم تذكره كما يقول المحتاج للمحتاج إليه جئتك : لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم ، ولذلك قالوا :
جزء : 1 رقم الصفحة : 183
وحسبك بالتسليم مني تقاضيا

(1/126)


فكأنه إمالة الكلام إلى غرض يدل على الغرض { أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ } [البقرة : 235] أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم لا معرضين ولا مصرحين { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } [البقرة : 235] لا محالة ولا تنفكون عن النطق برغبتكم فيهن فاذكروهن { وَلَـاكِن لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } [البقرة : 235] جماعا لأنه مما يسر أي لا تقولوا في العدة إني قادر على هذا العمل { إِلا أَن تَقُولُوا قَوْلا مَّعْرُوفًا } [البقرة : 235] وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا.
وإلا متعلق بـ لا تواعدوهن أي لا
186
تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة { وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ } [البقرة : 235] من عزم الأمر وعزم عليه.
وذكر العزم مبالغة في النهي عن عقد النكاح لأن العزم على الفعل يتقدمه فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى ، ومعناه ولا تعزموا عقد عقدة النكاح ، أو ولا تقطعوا عقدة النكاح لأن حقيقة العزم القطع ومنه الحديث لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل وروي لمن لم يبيت الصيام أي ولا تعزموا على عقدة النكاح { حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَـابُ أَجَلَهُ } [البقرة : 235] حتى تنقضي عدتها.
وسميت العدة كتاباً لأنها فرضت بالكتاب يعني حتى يبلغ التربص المكتوب عليها أجله أي غايته { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ } [البقرة : 235] من العزم على ما لا يجوز { فَاحْذَرُوهُ } ولا تعزموا عليه { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [البقرة : 235] لا يعاجلكم بالعقوبة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 183
ونزل فيمن طلق امرأته ولم يكن سمى لها مهراً ولا جامعها { لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } [البقرة : 236] لاتبعة عليكم من إيجاب مهر { إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ } [البقرة : 236] شرط ، ويدل على جوابه لا جناح عليكم والتقدير : إن طلقتم النساء فلا جناح عليكم { مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } [البقرة : 236] ما لم تجامعوهن ، وما شرطية أي إن لم تمسوهن تماسوهن : حمزة وعلي حيث وقع لأن الفعل واقع بين اثنين { أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } [البقرة : 236] إلا أن تفرضوا لهن فريضة أو حتى تفرضوا ، وفرض الفريضة تسمية المهر وذلك أن المطلقة غير الموطوءة لها نصف المسمى إن سمى لها مهر ، وإن لم يسم لها مهر فليس لها نصف مهر المثل بل تجب المتعة ، والدليل على أن الجناح تبعة المهر قوله وإن طلقتموهن إلى قوله فنصف ما فرضتم فقوله فنصف ما فرضتم إثبات للجناح المنفي ثمة { وَمَتِّعُوهُنَّ } معطوف على فعل محذوف تقديره فطلقوهن ومتعوهن.
والمتعة درع وملحفة وخمار { عَلَى الْمُوسِعِ } [البقرة : 236] الذي له سعة { قَدَرُهُ } مقداره الذي يطيقه.
قدره فيهما : كوفي غير أبي بكر وهما لغتان { وَعَلَى الْمُقْتِرِ } [البقرة : 236] الضيق الحال.
{ قَدَرُهُ } ولا تجب المتعة عندها إلا لهذه وتستحب لسائر المطلقات { مَّتَـاعًا } تأكيد لمتعوهن أي تمتيعاً { بِالْمَعْرُوفِ } بالوجه الذي يحسن في الشرع والمروءة { حَقًّا }
187
صفة لـ متاعاً أي متاعاً واجباً عليهم أو حق ذلك حقاً { عَلَى الْمُحْسِنِينَ } [البقرة : 236] على المسلمين ، أو على الذين يحسنون إلى المطلقات بالتمتيع.
وسماهم قبل الفعل محسنين كقوله عليه السلام من قتل قتيلاً فله سلبه وليس هذا الإحسان هو التبرع بما ليس عليه إذ هذه المتعة واجبة.
ثم بين حكم التي سمى لها مهراً في الطلاق قبل المس فقال { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [البقرة : 237] ” أن ” مع الفعل بتأويل المصدر في موضع الحر أي من قبل مسكم إياهن { وَقَدْ فَرَضْتُمْ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 183

(1/127)


البقرة : 237] في موضع الحال { لَهُنَّ فَرِيضَةً } [البقرة : 237] مهراً { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَن يَعْفُونَ } [البقرة : 237] يريد المطلقات.
و ” أن ” مع الفعل في موضع النصب على الاستثناء كأنه قيل : فعليكم نصف ما فرضتم في جميع الأوقات إلا وقت عفوهن عنكم من المهر.
والفرق بين الرجال ” يعفون ” ” والنساء ” يعفون ” أن الواو في الأول ضميرهم والنون علم الرفع ، والواو في الثاني لام الفعل والنون ضميرهن ، والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل { أَوْ يَعْفُوَا } [البقرة : 237] عطف على محله { الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } [البقرة : 237] هو الزوج كذا فسره علي رضي الله عنه وهو قول سعيد بن جبير وشريح ومجاهد وأبي حنيفة والشافعي على الجديد رضي الله عنهم ، وهذا لأن الطلاق بيده فكان إبقاء العقد بيده ، والمعنى أن الواجب شرعاً هو النصف إلا أن تسقط هي الكل أو يعطي هو الكل تفضلاً ، وعند مالك والشافعي في القديم هو الولي.
قلنا : هو لا يملك التبرع بحق الصغيرة فكيف يجوز حمله عليه؟ { وَأَن تَعْفُوا } [البقرة : 237] مبتدأ خبره { أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [المائدة : 8] والخطاب للأزواج والزوجات على سبيل التغليب ذكره الزجاج أي عفو الزوج بإعطاء كل المهر خير له ، وعفو المرأة بإسقاط كله خير لها أو للأزواج { وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ } [البقرة : 237]
188
التفضل { بَيْنَكُمْ } أي ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض { إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [البقرة : 110] فيجازيكم على تفضلكم.
{ حَـافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ } [البقرة : 238] داوموا عليها بمواقيتها وأركانها وشرائطها { وَالصَّلَواةِ الْوُسْطَى } [البقرة : 238] بين الصلوات أي الفضلى من قولهم للأفضل الأوسط.
وإنما أفردت وعطفت على الصلوات لانفرادها بالفضل.
وهي صلاة العصر عند أبي حنيفة رحمه الله وعليه الجمهور لقوله عليه السلام يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم ناراً وقال عليه السلام إنها الصلاة التي شغل عنها سليمان حتى توارت بالحجاب وفي مصحف حفصة والصلاة الوسطى صلاة العصر ولأنها بين صلاتي الليل وصلاتي النهار ، وفضلها لما في وقتها من اشتغال الناس بتجاراتهم ومعايشهم.
وقيل : صلاة الظهر لأنها في وسط النهار ، أو صلاة الفجر لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل ، أو صلاة الغرب لأنها بين الأربع والمثنى ، ولأنها بين صلاتي مخافتة وصلاتي جهر ، أو صلاة العشاء لأنها بين وترين ، أو هي غير معينة كليلة القدر ليحفظوا الكل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 183
{ وَقُومُوا لِلَّهِ } [البقرة : 238] في الصلاة { قَـانِتِينَ } حال أي مطيعين خاشعين أو ذاكرين الله في قيامكم.
والقنوت أن تذكر الله قائماً أو مطيلين القيام { فَإِنْ خِفْتُمْ } [النساء : 3] فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره { فَرِجَالا } حال أي فصلوا راجلين وهو جمع راجل كقائم وقيام { أَوْ رُكْبَانًا } [البقرة : 239] وحداناً بإيماء ويسقط عنه التوجه إلى القبلة { فَإِذَآ أَمِنتُمْ } [البقرة : 239] فإذا زال خوفكم { فَاذْكُرُوا اللَّهَ } [البقرة : 198] فصلوا صلاة الأمن { كَمَا عَلَّمَكُم } [البقرة : 239] أي ذكراً مثل ما علمكم { مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 151] من صلاة الأمن.
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لازْوَاجِهِم } [البقرة : 240] بالنصب
189

(1/128)


شامي وأبو عمرو وحمزة وحفص أي فليوصوا وصية عن الزجاج.
غيرهم بالرفع أي فعليهم وصيةٌ { مَّتَـاعًا } نصب بالوصية لأنها مصدر أو تقديره متعوهن متاعاً { إِلَى الْحَوْلِ } [البقرة : 240] صفة لـ متاعاً { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } [البقرة : 240] مصدر مؤكد كقولك ” هذا القول غير ما تقول ” ، أو بدل من متاعاً والمعنى أن حق الذين يتوفون عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولاً كاملاً أي ينفق عليهن من تركته ولا يخرجن من مساكنهن ، وكان ذلك مشروعاً في أول الإسلام ثم نسخ بقوله تعالى : { النَّاسُ } (البقرة : 241).
مع قوله تعالى : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ } [البقرة : 144] (البقرة : 441).
{ فَإِنْ خَرَجْنَ } [البقرة : 240] بعد الحول { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ } [البقرة : 234] من التزين والتعرض للخطاب { مِن مَّعْرُوفٍ } [البقرة : 240] مما ليس بمنكر شرعاً { وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة : 228] فيما حكم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 183
جزء : 1 رقم الصفحة : 190
{ وَلِلْمُطَلَّقَـاتِ مَتَـاعُ } [البقرة : 241] أي نفقة العدة { بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا } [البقرة : 180] نصب على المصدر { كَذَالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَـاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } هو في موضع الرفع لأنه خبر ” لعل ” ، وإن أريد به المتعة فالمراد غير المطلقة المذكورة وهي على سبيل الندب { أَلَمْ تَرَ } [الحج : 63] تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأخبار الأولين وتعجيب من شأنهم ، ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجيب { إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَـارِهِمْ } [البقرة : 243] من قرية قيل :
190
واسط وقع فيهم الطاعون فخرجوا هاربين فأماتهم الله ثم أحياهم بدعاء حزقيل عليه السلام.
وقيل : هم قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد فهربوا حذراً من الموت فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم { وَهُمْ أُلُوفٌ } [البقرة : 243] في موضع النصب على الحال ، وفيه دليل على الألوف الكثيرة لأنها جمع كثرة وهي جمع ألف لا آلف { حَذَرَ الْمَوْتِ } [البقرة : 243] مفعول له { فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا } [البقرة : 243] أي فأماتهم الله ، وإنما جيء به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته وتلك ميتة خارجة عن العادة ، وفيه تشجيع للمسلمين على الجهاد ، وأن الموت إذا لم يكن منه بد ولم ينفع منه مفر فأولى أن يكون في سبيل الله { ثُمَّ أَحْيَـاهُمْ } [البقرة : 243] ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفر من حكم الله وفضائه ، وهو معطوف على فعل محذوف تقديره فماتوا ثم أحياهم ، ولما كان معنى قوله فقال لهم الله موتوا فأماتهم كان عطفاً عليه معنى { إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } [البقرة : 243] حيث يبصرهم ما يعتبرون به كما بصر أولئك وكما بصركم باقتصاص خبرهم ، أو لذو فضل على الناس حيث أحيا أولئك ليعتبروا فيفوزوا ولو شاء لتركهم موتى إلى يوم النشور { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ } [البقرة : 243] ذلك.
والدليل على أنه ساق هذه القصة بعثاً على الجهاد ما أتبعه من الأمر بالقتال في سبيل الله وهو قوله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 190
{ وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [البقرة : 190] فحرض على الجهاد بعد الإعلام لأن الفرار من الموت لا يغني ، وهذا الخطاب لأمة محمد عليه السلام أو لمن أحياهم { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } [البقرة : 244] يسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون { عَلِيمٌ } بما يضمرونه { مِّنْ } استفهام في موضع رفع بالابتداء { ذَا } خبره { الَّذِى } نعت لـ ذا أو بدل منه { يُقْرِضُ اللَّهَ } [البقرة : 245] صلة الذي سمى ما ينفق في سبيل الله قرضاً لأن القرض ما يقبض ببدل مثله من بعد ، سمى به لأن المقرض يقطعه من ماله فيدفعه إليه.
191

(1/129)


والقرض القطع ومنه المقراض ، وقرض الفأر والانقراض فنبههم بذلك على أنه لا يضيع عنده وأنه يجزيهم عليه لا محالة { قَرْضًا حَسَنًا } [البقرة : 245] بطيبة النفس من المال الطيب ، والمراد النفقة في الجهاد لأنه لما أمر بالقتال في سبيل الله ويحتاج فيه إلى المال حث على الصدقة ليتهيأ أسباب الجهاد { فَيُضَـاعِفَهُ لَهُ } [البقرة : 245] بالنصب : عاصم على جواب الاستفهام.
وبالرفع : أبو عمر ونافع وحمزة وعلي عطفاً على يقرض ، أو هو مستأنف أي فهو يضاعفه.
فيضعفه : شامي.
فيضعفه : مكي.
{ أَضْعَافًا } في موضع المصدر { كَثِيرَةَ } لا يعلم كنهها إلا الله.
وقيل : الواحد بسبعمائة.
{ وَاللَّهُ يَقْبِضُ } يقتر الرزق على عباده ويوسعه عليهم فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم لا يبدلكم الضيق بالسعة.
ويبصط حجازي وعاصم وعلي { مَّن ذَا الَّذِى } [البقرة : 245] فيجازيكم على ما قدمتم.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلا } [البقرة : 246] الأشراف لأنهم يملأون القلوب جلالة والعيون مهابة { مِن بَنِى إِسْرَاءِيلَ } [المائدة : 78] من للتبعيض { مِن بَعْدِ مُوسَى } [البقرة : 246] من بعد موته ومن لابتداء الغاية { إِذْ قَالُوا } [الممتحنة : 4] حين قالوا { لِنَبِىٍّ لَّهُمُ } [البقرة : 246] هم شمعون أو يوشع أو اشمويل
جزء : 1 رقم الصفحة : 190
{ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا } [البقرة : 246] أنهض للقتال معنا أميراً نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وننتهي إلى أمره { نُّقَـاتِلْ } بالنون والجزم على الجواب { فِى سَبِيلِ اللَّهِ } [التوبة : 38] صلة نقاتل { قَالَ } النبي { هَلْ عَسَيْتُمْ } [البقرة : 246] عسيتم حيث كان : نافع.
{ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } [البقرة : 246] شرط فاصل بين اسم ” عسى ” وخبره وهو { أَلا تُقَـاتِلُوا } [البقرة : 246] والمعنى : هل قاربتم أن لا تقاتلوا يعني هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون وتجبنون ، فأدخل ” هل ” مستفهماً عما هو متوقع عنده ، وأراد بالاستفهام التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن وأنه صائب في توقعه { قَالُوا وَمَا لَنَآ أَلا نُقَـاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ } [البقرة : 246] وأي داعٍ لنا إلى ترك القتال وأي غرض لنا فيه { وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَـارِنَا وَأَبْنَآ ـاِنَا } [البقرة : 246] الواو في وقد للحال وذلك أن قوم جالوت كانوا يسكنون بين مصر وفلسطين فأسروا من أبناء ملوكهم
192
أربعمائة وأربعين يعنون إذا بلغ الأمر منا هذا المبلغ فلا بد من الجهاد { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ } [النساء : 77] أي أجيبوا إلى ملتمسهم { تَوَلَّوْا } أعرضوا عنه { إِلا قَلِيلا مِّنْهُمْ } [المائدة : 13] وهم كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر { وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالظَّـالِمِينَ } [البقرة : 95] وعيد لهم على ظلمهم بترك الجهاد.
{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ } [البقرة : 247] هو اسم أعجمي كجالوت وداود ، ومنع من الصرف للتعريف والعجمة { مَلِكًا } حال { قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا } [البقرة : 247] أي كيف ومن أين وهو إنكار لتملكه عليهم واستبعاد له { وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ } [البقرة : 247] الواو للحال { وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 190
البقرة : 247] أي كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك وأنه فقير لا بد للملك من مال يعتضد به ، وإنما قالوا ذلك لأن النبوة كانت في سبط لاوي بن يعقوب عليه السلام ، والملك في سبط يهوذا وهو كان من سبط بنيامين ، وكان رجلاً سقاء أو دباغاً فقيراً.
وروي أن نبيهم دعا الله حين طلبوا منه ملكاً فأتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت
193

(1/130)


{ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَـاهُ عَلَيْكُمْ } [البقرة : 247] الطاء في اصطفاه بدل من التاء لمكان الصاد الساكنة أي اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم ولا اعتراض على حكمه.
ثم ذكر مصلحتين أنفع مما ذكروا من النسب والمال وهما العلم المبسوط والجسامة فقال { وَزَادَهُ بَسْطَةً } [البقرة : 247] مفعول ثانٍ { فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } [البقرة : 247] قالوا : كان أعلم بني إسرائيل بالحرب والديانات في وقته ، وأطول من كل إنسان برأسه ومنكبه.
والبسطة السعة والامتداد ، والملك لا بد أن يكون من أهل العلم فإن الجاهل ذليل مزدرى غير منتفع به ، وأن يكون جسيماً لأنه أعظم في النفوس وأهيب في القلوب.
{ وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ } [البقرة : 247] أي الملك له غير منازع فيه وهو يؤتيه من يشاء إيتاءه وليس ذلك بالوراثة { وَاللَّهُ وَاسِعٌ } [البقرة : 247] أي واسع الفضل والعطاء يوسع على من ليس له سعة من المال ويغنيه بعد الفقر { عَلِيمٌ } بمن يصطفيه للملك فثمة طلبوا من نبيهم آية على اصطفاء الله طالوت.
جزء : 1 رقم الصفحة : 190
{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ } [البقرة : 248] أي صندوق التوراة ، وكان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون.
{ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [البقرة : 248] سكون وطمأنينة { وَبَقِيَّةٌ } هي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة ونعلا موسى وعمامة هارون عليهما السلام { مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وَءَالُ هَـارُونَ } [البقرة : 248] أي مما تركه موسى وهارون والآل مقحم لتفخيم شأنهما { تَحْمِلُهُ الْمَلَـائِكَةُ } [البقرة : 248] يعني التابوت وكان رفعه الله بعد موسى فنزلت به الملائكة تحمله وهم ينظرون إليه ، والجملة في موضع الحال وكذا فيه سكينة .
ومن ربكم } نعت لـ سكينة ” ومما ترك نعت لـ بقية { إِنَّ فِي ذَالِكَ لايَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [البقرة : 248] إن في رجوع التابوت إليكم علامة أن الله قد ملك طالوت عليكم إن كنتم مصدقين.
{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ } [البقرة : 249] خرج { بِالْجُنُودِ } عن بلده إلى جهاد العدو وبالجنود في موضع الحال أي مختلطاً بالجنود وهم ثمانون ألفاً ، وكان الوقت قيظاً وسألوا أن يجري الله لهم نهراً { قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم } [البقرة : 249] مختبركم أي يعاملكم معاملة المختبر { بِنَهَرٍ } وهو نهر فلسطين ليتميز المحقق في الجهاد من المعذر { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ } [البقرة : 249] كرعاً { فَلَيْسَ مِنِّي } [البقرة : 249] فليس من أتباعي وأشياعي { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } [البقرة : 249] ومن لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه { فَإِنَّهُ مِنِّى } [البقرة : 249] وبفتح الياء : مدني وأبو عمرو.
واستثنى { إِلا مَنِ اغْتَرَفَ } من قوله فمن شرب منه فليس مني والجملة الثانية في حكم المتأخرة عن الاستثناء إلا أنها قدمت للعناية { غُرْفَةَ بِيَدِهِ } [البقرة : 249] غرفة : حجازي وأبو عمرو بمعنى المصدر ، وبالضم بمعنى المغروف ومعناه الرخصة في اغتراف الغرفة
194
جزء : 1 رقم الصفحة : 190

(1/131)


باليد دون الكرع ، والدليل عليه { فَشَرِبُوا مِنْهُ } [البقرة : 249] أي فكرعوا { إِلا قَلِيلا مِّنْهُمْ } [المائدة : 13] وهم ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً { فَلَمَّا جَاوَزَهُ } [البقرة : 249] أي النهر { هُوَ } طالوت { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ } [هود : 58] أي القليل { قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ } [البقرة : 249] أي لا قوة لنا { بِجَالُوتَ } هو جبار من العمالقة من أولاد عمليق بن عاد وكان في بيضته ثلثمائة رطل من الحديد { وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا اللَّهِ } [البقرة : 249] يوقنون بالشهادة.
قيل : الضمير في قالوا للكثير الذين انخذلوا والذين يظنون هم القليل الذين ثبتوا معه.
وروي أن الغرفة كانت تكفي الرجل لشربه وإداوته والذين شربوا منه اسودت شفاههم وغلبهم العطش { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ } [البقرة : 249] كم خبرية وموضعها رفع بالابتداء { غَلَبَتْ } خبرها { فِئَةً كَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ } [البقرة : 249] بنصره { وَاللَّهُ مَعَ الصَّـابِرِينَ } [البقرة : 249] بالنصر.
{ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ } [البقرة : 250] خرجوا لقتالهم { قَالُوا رَبَّنَآ أَفْرِغْ } [البقرة : 250] أصبب { عَلَيْنَا صَبْرًا } [الأعراف : 126] على القتال { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } [البقرة : 250] بتقوية قلوبنا وإلقاء الرعب في صدور عدونا { وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ } [البقرة : 250] أعنا عليهم { فَهَزَمُوهُم } أي طالوت والمؤمنون جالوت وجنوده { بِإِذْنِ اللَّهِ } [فاطر : 32] بقضائه { وَقَتَلَ دَاوُادُ جَالُوتَ } [البقرة : 251] كان بيشا أو داود في عسكر طالوت مع ستة من بنيه وكان داود سابعهم وهو صغير يرعى الغنم ، فأوحى الله إلى نبيهم أن داود هو الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء وقد مر في طريقه بثلاثة أحجار دعاه كل واحد منها أن يحمله وقالت له : إنك تقتل بنا جالوت فحملها في مخلاته ورمى بها جالوت فقتله وزوجه طالوت بنته ، ثم حسده وأراد قتله ثم مات تائباً
جزء : 1 رقم الصفحة : 190
{ وَءَاتَـاـاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } [البقرة : 251] في مشارق الأرض المقدسة ومغاربها ، وما اجتمعت بنو إسرائيل على ملك قط قبل داود { وَالْحِكْمَةَ } والنبوة { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ } [البقرة : 251] من صنعة الدروع وكلام الطيور والدواب وغير ذلك.
{ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ } [البقرة : 251] هو مفعول به { بَعْضُهُمْ } بدل من الناس دفاع : مدني مصدر دفع أو دافع { بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الارْضُ } [البقرة : 251] أي ولولا
195
أن الله تعالى يدفع بعض الناس ببعض ويكف بهم فسادهم لغلب المفسدون وفسدت الأرض وبطلت منافعها من الحرث والنسل ، أو ولولا أن الله تعالى ينصر المسلمين على الكافرين لفسدت الأرض بغلبة الكفار وقتل الأبرار وتخريب البلاد وتعذيب العباد { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَـالَمِينَ } [البقرة : 251] بإزالة الفساد عنهم وهو دليل على المعتزلة في مسألة الأصلح { تِلْكَ } مبتدأ خبره { اللَّهِ أَلا } [غافر : 4] يعني القصص التي اقتصها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت وإظهاره على الجبابرة على يد صبي { نَتْلُوهَا } حال من آيات الله ، والعامل فيه معنى الإشارة ، أو آيات الله بدل من تلك ونتلوها الخبر.
{ عَلَيْكَ بِالْحَقِّ } [الجاثية : 6] باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك { وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } [البقرة : 252] حيث تخبر بها من غير أن تعرف بقراءة كتاب أو سماع من أهله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 190
{ تِلْكَ الرُّسُلُ } [البقرة : 253] إشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت قصصها في هذه السورة من آدم إلى داود أو التي ثبت علمها عند رسول الله عليه السلام { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [البقرة : 253] بالخصائص وراء الرسالة لاستوائهم فيها كالمؤمنين يستوون في صفة الإيمان ويتفاوتون في الطاعات بعد الإيمان.
ثم بين ذلك بقوله { مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 196

(1/132)


البقرة : 253] أي كلمه الله حذف العائد من الصلة يعني منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ } [البقرة : 253] مفعول أول { دَرَجَـاتٍ } مفعول ثانٍ أي بدرجات أو إلى درجات يعني ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة وهو محمد صلى الله عليه وسلّم ، لأنه هو المفضل عليهم بإرساله إلى الكافة ، وبأنه أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف أو أكثر ، وأكبرها القرآن لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر.
وفي هذا الإبهام تفخيم وبيان أنه العلم الذي لا يشتبه على أحد ، والمتميز الذي لا يلتبس.
وقيل : أريد به محمد وإبراهيم وغيرهما من أولي العزم من
196
الرسل { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ وَقَفَّيْنَا } [البقرة : 87] كإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص وغير ذلك { وَأَيَّدْنَـاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } [البقرة : 87] قويناه بجبريل أو بالإنجيل { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ } [البقرة : 253] أي ما اختلف لأنه سببه { الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم } [البقرة : 253] من بعد الرسل { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَـاتُ } [البقرة : 213] المعجزات الظاهرات { وَلَـاكِنِ اخْتَلَفُوا } [البقرة : 253] بمشيئتي.
ثم بين الاختلاف فقال { فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ } [البقرة : 253] بمشيئتي.
يقول الله أجريت أمور رسلي على هذا ، أي لم يجتمع لأحد منهم طاعة جميع أمته في حياته ولا بعد وفاته بل اختلفوا عليه فمنهم من آمن ومنهم من كفر { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا } [البقرة : 253] كرره للتأكيد أي لو شئت أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا إذ لا يجري في ملكي إلا ما يوافق مشيئتي ، وهذا يبطل قول المعتزلة لأنه أخبر أنه لو شاء أن يقتتلوا لم يقتتلوا وهم يقولون شاء أن لا يقتتلوا فاقتتلوا { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [البقرة : 253] أثبت الإرادة لنفسه كما هو مذهب أهل السنة.
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَـاكُم }
جزء : 1 رقم الصفحة : 196
في الجهاد في سبيل الله ، أو هو عام في كل صدقة واجبة { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ } [البقرة : 254] أي من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق لأنه لا بيع فيه حتى تبتاعوا ما تنفقونه { وَلا خُلَّةٌ } [البقرة : 254] حتى يسامحكم أخلاؤكم به { وَلا شَفَـاعَةٌ } [البقرة : 254] أي للكافرين ، فأما المؤمنون فلهم شفاعة أو إلا بإذنه { وَالْكَـافِرُونَ هُمُ الظَّـالِمُونَ } [البقرة : 254] أنفسهم بتركهم التقديم ليوم حاجاتهم ، أو الكافرون بهذا اليوم هم الظالمون.
لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة : مكي وبصري { اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } [البقرة : 255] ” لا ” مع اسمه وخبره وما أبدل من موضعه في موضع الرفع خبر المبتدأ وهو الله { الْحَىُّ } الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء { الْقَيُّومُ } الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } [البقرة : 255] نعاس وهو ما يتقدم النوم من
197
الفتور { وَلا نَوْمٌ } [البقرة : 255] عن المفضل : السنة ثقل في الرأس ، والنعاس في العين ، والنوم في القلب وهو تأكيد للقيوم ، لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوماً ، وقد أوحى إلى موسى عليه السلام : قل لهؤلاء إني أمسك السموات والأرض بقدرتي فلو أخذني نوم أو نعاس لزالتا.
{ لَّهُ مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ } [البقرة : 255] ملكاً وملكاً { مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُا إِلا بِإِذْنِهِ } [البقرة : 255] ليس لأحد أن يشفع عنده إلا بإذنه وهو بيان لملكوته وكبريائه ، وأن أحداً لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام ، وفيه رد لزعم الكفار أن الأصنام تشفع لهم { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } [البقرة : 255] ما كان قبلهم وما يكون بعدهم والضمير لما في السماوات والأرض لأن فيهم العقلاء { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ } [البقرة : 255] من معلومه يقال في الدعاء ” اللهم اغفر علمك فينا ” أي معلومك
جزء : 1 رقم الصفحة : 196

(1/133)


{ إِلا بِمَا شَآءَ } [البقرة : 255] إلا بما علم { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ } [البقرة : 255] أي علمه ومنه الكراسة لتظمنها العلم والكراسي العلماء ، وسمي العلم كرسياً تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم وهو كقوله تعالى : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا } [غافر : 7] (غافر : 7) أو ملكه تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك أو عرشه كذا عن الحسن ، أو هو سرير دون العرش في الحديث ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بفلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة أو قدرته بدليل قوله { وَلا نَوْمٌ } [البقرة : 255] ولا يثقله ولا يشق عليه { حِفْظُهُمَا } حفظ السموات والأرض { وَهُوَ الْعَلِىُّ } [البقرة : 255] في ملكه وسلطانه { الْعَظِيمِ } في عزه وجلاله أو العلي المتعالي عن الصفات التي لا تليق به العظيم ، المتصف بالصفات التي تليق به ، فهما جامعان لكمال التوحيد.
وإنما ترتبت الجمل في آية الكرسي بلا حرف عطف لأنها وردت على سبيل البيان ؛ فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساهٍ عنه ، والثانية لكونه مالكاً لما يدبره ، والثالثة لكبرياء شأنه ، والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق ، والخامسة لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها أو لجلاله وعظم قدره.
وإنما فضلت هذه الآية حتى ورد في فضلها ما ورد ، منه ما روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم من قرأ
198
آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله .
وقال عليه السلام سيد البشر آدم ، وسيد العرب محمد ولا فخر ، وسيد الفرس سلمان ، وسيد الروم صهيب ، وسيد الحبشة بلال ، وسيد الجبال الطور ، وسيد الأيام يوم الجمعة ، وسيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي قال ما قرئت هذه الآية في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة وقال من قرأ آية الكرسي عند منامه بعث إليه ملك يحرسه حتى يصبح قال من قرأ هاتين الآيتين حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح ، وإن قرأهما حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي : آية الكرسي وأول ” حم المؤمن ” إلى
جزء : 1 رقم الصفحة : 196
{ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [غافر : 3] لاشتمالهما على توحيد الله تعالى وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى ، ولا مذكور أعظم من رب العزة فما كان ذاكراً له كان أفضل من سائر الأذكار وبه يعلم أن أشرف العلوم علم التوحيد.
{ لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ } [البقرة : 256] أي لا إجبار على الدين الحق وهو دين الإسلام.
وقيل : هو إخبار في معنى ، النهي ، وروي أنه كان لأنصاري ابنان فتنصرا فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما ، فأبيا فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال الأنصاري : يا رسول الله أيدخل بعضي في النار وأنا أنظر؟ فنزلت فخلاهما.
قال ابن مسعود وجماعة : كان هذا في الابتداء ثم نسخ بالأمر بالقتال { قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ } [البقرة : 256] قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة { فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّـاغُوتِ } [البقرة : 256] بالشيطان أو الأصنام { وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ } [البقرة : 256] تمسك { بِالْعُرْوَةِ } أي المعتصم
199

(1/134)


والمتعلق { الْوُثْقَى } تأنيث الأوثق أي الأشد من الحبل الوثيق المحكم المأمون { لا انفِصَامَ لَهَا } [البقرة : 256] لا انقطاع للعروة ، وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده ، والمعنى فقد عقد لنفسه من الدين عقداً وثيقاً لا تحله شبهة { وَاللَّهُ سَمِيعٌ } [البقرة : 224] لإقراره { عَلِيمٌ } باعتقاده.
{ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [البقرة : 257] أرادوا أن يؤمنوا أي ناصرهم ومتولي أمورهم { يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ } [البقرة : 257] من ظلمات الكفر والضلالة وجمعت لاختلافها { إِلَى النُّورِ } [إبراهيم : 1] إلى الإيمان والهداية ووحد لاتحاد الإيمان { وَالَّذِينَ كَفَرُوا } [النور : 39] مبتدأ والجملة وهي { أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّـاغُوتُ } [البقرة : 257] خبره { يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَـاتِ } [البقرة : 257] وجمع لأن الطاغوت في معنى الجمع يعني والذين صمموا على الكفر أمرهم على عكس ذلك ، أو الله ولي المؤمنين يخرجهم من الشبهة في الدين إن وقعت لهم بما يهديهم ويوفقهم له من حلها حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين ، والذين كفروا أولياؤهم الشياطين يخرجونهم من نور البينات الذي يظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة { أُوالَـائِكَ أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ } [البقرة : 39].
ثم عجب نبيه عليه السلام وسلاه بمجادلة إبراهيم عليه السلام نمرود الذي كان يدعي الربوبية بقوله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 196
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَآجَّ إِبْرَاهِـامَ فِى رَبِّهِ } [البقرة : 258] في معارضته ربوبية ربه.
والهاء في ربه يرجع إلى إبراهيم أو إلى الذي حاج فهو ربهما { أَنْ ءَاتَـاـاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } [البقرة : 258]
لأنّ آتاه الله يعني أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر فحاج لذلك ، وهو دليل على المعتزلة في الأصلح أوحاج وقت أن أتاه الله الملك { إِذْ قَالَ } [البقرة : 258] نصب بـ حاج أو بدل من أن آتاه إذا جعل بمعنى الوقت { إِبْرَاهِ مُ رَبِّيَ } [البقرة : 258] رب : حمزة
200
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى } [البقرة : 258] كأنه قال له : من ربك؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت { قَالَ } نمرود { أَلَمْ تَرَ إِلَى } [البقرة : 258] يريد أعفو عن القتل وأقتل فانقطع اللعين بهذا عند المخاصمة فزاد إبراهيم عليه السلام ما لا يتأتى فيه التلبيس على الضعفة حيث { قَالَ إِبْرَاهِ مُ } [البقرة : 126] عليه السلام { فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } [البقرة : 258] وهذا ليس بانتقال من حجة إلى حجة كما زعم البعض لأن الحجة الأولى كانت لازمة ، ولكن لما عاند اللعين حجة الإحياء بتخلية واحد وقتل آخر ، كلمه من وجه لا يعاند ، وكانوا أهل تنجيم ، وحركة الكواكب من المغرب إلى المشرق معلومة لهم ، والحركة الشرقية المحسوسة لنا قسرية كتحريك الماء النمل على الرحى إلى غير جهة حركة النمل فقال : إن ربي يحرك الشمس قسراً على غير حركتها ، فإن كنت رباً فحركها بحركتها فهو أهون { فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ } [البقرة : 258] تحير ودهش { وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ } [البقرة : 258] أي لا يوفقهم وقالوا : إنما لم يقل نمرود فليأت ربك بالشمس من المغرب لأن الله تعالى صرفه عنه.
وقيل : إنه كان يدعي الربوبية لنفسه وما كان يعترف بالربوبية لغيره.
ومعنى قوله أنا أحيي وأميت أن الذي ينسب إليه الإحياء والإماتة أنا لا غيري ، والآية تدل على إباحة التكلم في علم الكلام والمناظرة فيه لأنه قال : ألم ترى الذي حاج إبراهيم في ربه .
والمحاجة تكون بين اثنين فدل على أن إبراهيم حاجه أيضاً ، ولو لم يكن مباحاً لما باشرها إبراهيم عليه السلام لكون الأنبياء عليهم السلام معصومين عن ارتكاب الحرام ، ولأنا أمرنا بدعاء الكفرة إلى الإيمان بالله وتوحيده وإذا دعوناهم إلى ذلك لا بد أن يطلبوا منا الدليل على ذلك ، وذا لا يكون إلا بعد المنظارة كذا في شرح التأويلات.
جزء : 1 رقم الصفحة : 200

(1/135)


{ أَوْ كَالَّذِى مَرَّ } [البقرة : 259] معناه أو أرأيت مثل الذي فحذف لدلالة لم تر عليه لأن كلتيهما كلمة تعجيب ، أو هو محمول على المعنى دون اللفظ تقديره : أرأيت
201
كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر.
وقال صاحب الكشف : فيه الكاف زائدة والذي عطف على قوله إلى الذي حاج عن الحسن أن المار كان كافراً بالبعث لانتظامه مع نمرود في سلك ولكلمة الاستبعاد التي هي أنى يحيي والأكثر أنه عزيز أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم عليه السلام وأنى يحيي اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الإحياة واستعظام لقدرة المحيي { عَلَى قَرْيَةٍ } [الأنبياء : 95] هي بيت المقدس حين خربه بختنصر وهي التي خرج منها الألوف { وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } [البقرة : 259] ساقطة مع سقوفها أو سقطت السقوف ثم سقطت عليها الحيطان وكل مرتفع عرش { قَالَ أَنَّى يُحْىِ } [البقرة : 259] أي كيف { هَـاذِهِ } أي أهل هذه { اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِا ئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } [البقرة : 259] أي أحياه { قَالَ } له ملك { كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } [البقرة : 259] بناء على الظن ، وفيه دليل جواز الاجتهاد روي أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس فقال قبل النظر إلى الشمس يوماً ، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال أو بعض يوم { قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِا ئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ } [البقرة : 259] روي أن طعامه كان تيناً وعنباً وشرابه عصيراً ولبناً فوجد التين والعنب كما جنيا والشراب على حاله { لَمْ يَتَسَنَّهْ } [البقرة : 259] لم يتغير والهاء أصلية أو هاء سكت واشتقاقه من السنة على الوجهين ، لأن لامها هاء لأن الأصل سنهة والفعل سانهت.
يقال سانهت فلاناً أي عاملته سنة أو واو لأن الأصل سنوة والفعل سانيت ومعناه لم تغيره السنون.
لم يتسن بحذف الهاء في الوصل وبإثباتها في الوقف : حمزة وعلي { وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ } [البقرة : 259] كيف تفرقت عظامه ونخرت وكان له حمار قد ربطه فمات وتفتتت عظامه ، أو وانظر إليه سالماً في مكانه كما ربطته وذلك من أعظم الآيات أن يعيش مائة عام من غير علف ولا ماء كما حفظ طعامه وشرابه من التغير
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
{ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِّلنَّاسِ } [البقرة : 259] فعلنا ذلك يريد إحياءه بعد الموت وحفظ ما معه.
وقيل : الواو عطف على محذوف أي لتعتبر ولنجعلك.
قيل : أتى قومه راكباً حماراً وقال : أنا عزيز فكذبوه فقال : هاتوا التوراة فأخذ يقرؤها عن ظهر قلبه ولم يقرأ التوراة ظاهر أحد قبل عزيز فذلك كونه آية.
وقيل : رجع إلى منزله فرأى أولاده شيوخاً وهو شاب { وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ } [البقرة : 259] أي عظام الحمار أو عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم
202
{ كَيْفَ نُنشِزُهَا } [البقرة : 259] نحركها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب.
ننشرها بالراء : حجازي وبصري نحييها ثمّ نكسوها أي العظام لحماً جعل اللحم كاللباس مجازاً فلمّا تبيّن له فاعله مضمر تقديره فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ } فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كقولهم ” ضربني وضربت زيداً ” ويجوز فلما تبين له ما أشكل عليه يعني أمر إحياء الموتى.
قال اعلم على لفظ الأمر : حمزة وعلي أي قال الله له اعلم أو هو خاطب نفسه.

(1/136)


{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِـامُ رَبِّ أَرِنِى } [البقرة : 260] بصرني { كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى } [البقرة : 260] موضع كيف نصب بـ ” يحيي { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـاكِن لِّيَطْمَـاـاِنَّ قَلْبِى } وإنما قال له أو لم تؤمن وقد علم أنه أثبت الناس إيماناً ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين.
وبلى إيجاب لما بعد النفي معناه بلى آمنت ولكن لأزيد سكوناً وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال ، وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة فعلم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف الضروري.
واللام تتعلق بمحذوف تقديره ولكن سألت ذلك أراد طمأنينة القلب { قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ } [البقرة : 260] طاوساً وديكاً وغراباً وحمامة { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } [البقرة : 260] وبكسر الصاد : حمزة أي أملهن واضممهن إليك { ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا } ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال التي بحضرتك وفي أرضك وكانت أربعة أجبل أو سبعة.
جزأ بضمتين وهمز : أبو بكر
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
{ ثُمَّ ادْعُهُنَّ } [البقرة : 260] قل لهن تعالين بإذن الله { يَأْتِينَكَ سَعْيًا } [البقرة : 260] مصدر في موضع الحال أي ساعيات مسرعات في طيرانهن أو في مشيهن على أرجلهن.
وإنما أمره بضمها إلى نفسه بعد أخذها ليتأملها ويعرف أشكالها وهيئآتها وحلاّها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك ، وروي أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها وأن يمسك رؤوسها ، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال عل كل جبل ربعاً من كل طائر ، ثم يصيح بها تعالين بإذن الله تعالى فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثاً ثم أقبلن فانضممن
203
إلى رؤوسهن كل جثة إلى رأسها { وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } [البقرة : 260] لا يمتنع عليه ما يريده { حَكِيمٌ } فيما يدبر لا يفعل إلا ما فيه الحكمة ، ولما برهن على قدرته على الإحياء حث على الإنفاق في سبيل الله ، وأعلم أن من أنفق في سبيله فله في نفقته أجر عظيم وهو قادر عليه فقال : { مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [البقرة : 261] لا بد من حذف مضاف أي مثل نفقتهم { كَمَثَلِ حَبَّةٍ } [البقرة : 261] أو مثلهم كمثل حبة { أَنابَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنابُلَةٍ مِّا ئَةُ حَبَّةٍ } [البقرة : 261] المنبت هو الله ولكن الحبة لما كانت سبباً أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء.
ومعنى إنباتها سبع سنابل أن تخرج ساقاً يتشعب منه سبع شعب لكل واحد سنبلة ، وهذا التمثيل تصوير للأضعاف كأنها ماثلة بين عيني الناظر والممثل به موجود في الدخن والذرة وربما فرخت ساق البرة في الأرض القوية المغلة فيبلغ حبها هذا المبلغ ، على أن التمثيل يصح وإن لم يوجد على سبيل الفرض ، والتقدير ووضع سنابل موضع سنبلات كوضع قروء موضع أقراء { وَاللَّهُ يُضَـاعِفُ لِمَن يَشَآءُ } [البقرة : 261] أي يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء لا لكل منفق لتفاوت أحوال المنفقين ، أو يزيد على سبعمائة لمن يشاء.
يضعّف : شامي ويضعّف : مكي { وَاللَّهُ وَاسِعٌ } [البقرة : 247] واسع الفضل والجود { عَلِيمٌ }
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
بنيات المنفقين.
{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُوا مَنًّا } [البقرة : 262] هو أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه اصطنعه وأوجب عليه حقاً له وكانوا يقولون إذا صنعتم صنيعة فانسوها { وَلا أَذًى } [البقرة : 262] هو أن يتطاول عليه بسبب ما أعطاه.
ومعنى ” ثم ” إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى وأن تركهما خير من نفس الإنفاق كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدخول فيه بقوله { ثُمَّ اسْتَقَـامُوا } [فصلت : 30] (فصلت : 03)
204
{ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } [آل عمران : 199] أي ثواب إنفاقهم { وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [البقرة : 62] من بخس الأجر { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة : 38] من فوته ، أو لا خوف من العذاب ولا حزن بفوت الثواب.
وإنما قال هنا : لهم أجرهم وفيما بعد فلهم أجرهم لأن الموصول هنا لم يضمن معنى الشرط وضمنه ثمة.

(1/137)


{ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } [البقرة : 263] رد جميل { وَمَغْفِرَةٌ } وعفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول ، أو ونيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل { خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى } [البقرة : 263] وصح الإخبار عن المبتدأ النكرة لاختصاصه بالصفة { وَاللَّهُ غَنِىٌّ } [البقرة : 263] لا حاجة له إلى منفق يمن ويؤذي { حَلِيمٌ } عن معاجلته بالعقوبة وهذا وعيد له.
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
ثم أكد ذلك بقوله { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَـاتِكُم بِالْمَنِّ وَالاذَى كَالَّذِى } الكاف نصب صفة مصدر محذوف والتقدير إبطالاً مثل إبطال الذي { يُنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } [البقرة : 264] أي لا تبطلوا ثواب صدقاتكم بالمن والأذى كإبطال المنافق الذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يريد بإنفاقه رضا الله ولا ثواب الآخرة ، ورئاء مفعول له { كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ } مثّله ونفقته التي لا ينتفع بها البتة بحجر أملس عليه تراب { فَأَصَابَهُ وَابِلٌ } [البقرة : 264] مطر عظيم القطر { فَتَرَكَهُ صَلْدًا } [البقرة : 264] أجرد نقياً من التراب الذي كان عليه { لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا } [البقرة : 264] لا يجدون ثواب شيء مما أنفقوا ، أو الكاف في محل النصب على الحال أي لا تطلبوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق.
وإنما قال لا يقدرون بعد قوله كالذي ينفق لأنه أراد بالذي ينفق الجنس أو الفرق الذي ينفق { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَـافِرِينَ } [البقرة : 264] ما داموا مختارين الكفر.
{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ } [البقرة : 265] أي وتصديقاً للإسلام وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم ، لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ومن إخلاص
205
قلبه.
ومن لابتداء الغاية وهو معطوف على المفعول له أي للإبتغاء والتثبيت ، والمعنى ومثل نفقة هؤلاء في زكاتها عند الله { كَمَثَلِ جَنَّة } [البقرة : 265] بستان { بِرَبْوَةٍ } مكان مرتفع ، وخصها لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمراً بربوة : عاصم وشامي { أَصَابَهَا وَابِلٌ فَاَاتَتْ أُكُلَهَا } ثمرتها أكلها ” : نافع ومكي وأبو عمر و { ضِعْفَيْنِ } مثلي ما كانت تثمر قبل بسبب الوابل { فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 200

(1/138)


البقرة : 265] فمطر صغير القطر يكفيها لكرم منبتها ، أو مثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطل ، وكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة بعد أن يطلب بها رضا الله تعالى زاكية عند الله زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عنده { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [البقرة : 265] يرى أعمالكم على إكثار وإقلال ويعلم نياتكم فيهما من رياء وإخلاص.
الهمزة في { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ } [البقرة : 266] للإنكار { أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ } [البقرة : 266] بستان { مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ لَهُ } [البقرة : 266] لصاحب البستان { فِيهَآ } في الجنة { مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ } [النحل : 69] يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيها ، أو أن النخيل والأعناب لما كانا أكرم الشجر وأكثرها منافع خصهما بالذكر وجعل الجنة منهما وإن كانت محتوية على سائر الأشجار تغليباً لهما على غيرهما ثم أردفهما ذكر كل الثمرات.
{ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ } [البقرة : 266] الواو للحال ومعناه أن تكون له جنة وقد أصابه الكبر ، والواو في { وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ } [البقرة : 266] أولاد صغار للحال أيضاً ، والجملة في موضع الحال من الهاء في أصابه { فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ } [البقرة : 266] ريح تستدير في الأرض ثم تستطع نحو السماء كالعمود { فِيهِ } في الإعصار وارتفع { نَارٌ } بالظرف إذ جرى الظرف وصفاً لإعصار { فَاحْتَرَقَتْ } الجنة ، وهذا مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة رياء فإذا كان يوم القيامة وجدها محبطة فيتحسر عند ذلك حسرة من كانت له جنة جامعة للثمار فبلغ الكبر وله أولاد ضعاف والجنة معاشهم فهلكت بالصاعقة { كَذَالِكَ } كهذا البيان الذي بين فيما تقدم { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الايَـاتِ } [البقرة : 219] في التوحيد والدين { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } [البقرة : 219] فتنتبهوا.
206
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَـاتِ مَا كَسَبْتُمْ } من جياد مكسوباتكم ، وفيه دليل وجوب الزكاة في أموال التجارة { وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الارْضِ } [البقرة : 267] من الحب والثمر والمعادن وغيرها والتقدير : ومن طيبات ما أخرجنا لكم إلا أنه حذف لذكر الطيبات { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ } [البقرة : 267] ولا تقصدوا المال الرديء { مِنْهُ تُنفِقُونَ } [البقرة : 267] تخصونه بالإنفاق وهو في محل الحال أي ولا تيمموا الخبيث منفقين أي مقدرين النفقة { وَلَسْتُم بِاَاخِذِيهِ } [البقرة : 267] وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم { إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ } [البقرة : 267] إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه من قولك ” أغمض فلان عن بعض حقه ” إذا غض بصره ، ويقال للبائع ” أغمض ” أي لا تستقص كأنك لا تبصر.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا يتصدقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه.
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ } [البقرة : 267] عن صدقاتكم { حَمِيدٌ } مستحق للحمد أو محمود.
جزء : 1 رقم الصفحة : 200

(1/139)


{ الشَّيْطَـانُ يَعِدُكُمُ } [البقرة : 268] في الإنفاق { الْفَقْرَ } ويقول لكم إن عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا ، والوعد يستعمل في الخير والشر { وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ } [البقرة : 268] ويغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور والفاحش عند العرب البخيل { وَاللَّهُ يَعِدُكُم } [البقرة : 268] في الإنفاق { مَّغْفِرَةً مِّنْهُ } [البقرة : 268] لذنوبكم وكفارة لها { وَفَضْلا } وأن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم ، أو وثواباً عليه في الآخرة { وَاللَّهُ وَاسِعٌ } [البقرة : 247] يوسع على من يشاء { عَلِيمٌ } بأفعالكم ونياتكم.
{ يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ } [البقرة : 269] علم القرآن والسنة ، أو العلم النافع الموصل إلى رضا الله والعمل به ، والحكيم عند الله هو العالم العامل { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ } [البقرة : 269] ومن يؤت : يعقوب أي ومن يؤته الله الحكمة { فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } [البقرة : 269] تنكير تعظيم أي أوتي خيراً أيّ خير كثير.
{ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الالْبَـابِ } [البقرة : 269] وما يتعظ بمواعظ الله إلا ذوو العقول السليمة أو العلماء العمال ، والمراد به الحث على
207
العمل بما تضمنت الآي في معنى الإنفاق.
{ وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ } [البقرة : 270] في سبيل الله أو في سبيل الشيطان { أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ } [البقرة : 270] في طاعة الله أو في معصيته { فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } [البقرة : 270] لا يخفى عليه وهو مجازيكم عليه { وَمَا لِلظَّـالِمِينَ } [البقرة : 270] الذين يمنعون الصدقات أو ينفقون أموالهم في المعاصي أو ينذرون في المعاصي أو لا يفون بالنذور { مِنْ أَنصَارٍ } [البقرة : 270] ممن ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه.
{ إِن تُبْدُوا الصَّدَقَـاتِ فَنِعِمَّا هِىَ } [البقرة : 271] فنعم شيئاً إبداؤها و ” ما ” نكرة غير موصولة ولا موصوفة ، والمخصوص بالمدح هي .
فنعما هي بكسر النون وإسكان العين : أبوعمرو ومدني غير ورش.
وبفتح النون وكسر العين : شامي وحمزة وعلي.
وبكسر النون والعين : غيرهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
{ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ } [البقرة : 271] وتصيبوا بها مصارفها مع الإخفاء { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [الانفال : 19] فالإخفاء خير لكم.
قالوا : المراد صدقات التطوع والجهر في الفرائض أفضل لنفي التهمة حتى إذا كان المزكي ممن لا يعرف باليسار كان إخفاؤه أفضل ، والمتطوع إن أراد أن يقتدي به كان إظهاره أفضل.
{ وَيُكَفِّرُ } بالنون وجزم الراء : مدني وحمزة وعلي.
بالياء ورفع الراء : شامي وحفص.
وبالنون والرفع : غيرهم.
فمن جزم فقد عطف على محل الفاء وما بعده لأنه جواب الشرط ، ومن رفع فعلى الاستئناف والياء على معنى يكفر الله.
{ عَنكُم مِّن سَيِّاَاتِكُمْ } [البقرة : 271] والنون على معنى نحن نكفر { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [البقرة : 265] من الإبداء والإخفاء { خَبِيرٌ } عالم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاـاهُمْ } [البقرة : 272] لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والأذى والإنفاق من الخبيث وغير ذلك ، وما عليك إلا أن تبلغهم النواهي فحسب { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ } [البقرة : 272] أو ليس عليك التوفيق على الهدى أو خلق الهدى وإنما ذلك إلى الله { وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ } [البقرة : 273] من مال
208
{ فَلانفُسِكُمْ } فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا به على الناس ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم { وَمَا تُنفِقُونَ إِلا ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ } [البقرة : 272] وليست نفقتكم إلا ابتغاء وجه الله أي رضا الله ولطلب ما عنده فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله ، أو هذا نفي معناه النهي أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله { وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } [البقرة : 272] ثوابه أضعافاً مضاعفة فلا عذر لكم في أن ترغبوا عن إنفاقه وأن يكون على أحسن الوجوه وأجملها { وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ } [البقرة : 272] ولا تنقصون كقوله : { وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شيئا } [الكهف : 33] (الكهف : 33).
أي لم تنقص.

(1/140)


الجار في { لِلْفُقَرَآءِ } متعلق بمحذوف أي اعمدوا للفقراء ، أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هذه الصدقات للفقراء { الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ } [البقرة : 273] هم الذين أحصرهم الجهاد فمنعهم من التصرف { لا يَسْتَطِيعُونَ } [النساء : 98] لاشتغالهم به { ضَرْبًا فِى الارْضِ } [البقرة : 273] للكسب.
وقيل : هم أصحاب الصفة وهم نحو من أربعمائة رجل من مهاجري قريش لم تكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر ، فكانوا في صفة المسجد وهي سقيفته يتعلمون القرآن بالليل ويرضخون النوى بالنهار ، وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى.
{ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ } [البقرة : 273] بحالهم.
يحسبهم وبابه : شامي ويزيد وحمزة وعاصم غير الأعشى وهبيرة.
والباقون بكسر السين.
{ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ } [البقرة : 273] مستغنين من أجل تعففهم عن المسألة { تَعْرِفُهُم بِسِيمَـاهُمْ } [البقرة : 273] من صفرة الوجوه ورثاثة الحال { لا يَسْـاَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } [البقرة : 273] إلحاحاً.
قيل : هو نفي السؤال
209
والإلحاح جميعاً كقوله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
على لاحب لا يهتدي بمناره
يريد نفي المنار والاهتداء به.
والإلحاح هو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه وفي الحديث إن الله يحب الحي الحليم المتعفف ويبغض البذي السآل الملحف وقيل : معناه أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحوا { وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [البقرة : 273] لا يضيع عنده.
{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً } [البقرة : 274] هما حالان أي مسرين ومعلنين يعني يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير ، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه ولم يتعللوا بوقت ولا حال.
وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق بأربعين ألف دينار : عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة في السر ، وعشرة في العلانية.
أو في علي رضي الله عنه لم يملك إلا أربعة دراهم ، تصدق بدرهم ليلاً ، وبدرهم نهاراً ، وبدرهم سراً ، وبدرهم علانية.
{ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة : 62] { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَوا } [البقرة : 275] هو فضل مال خال عن العوض في معاوضة مال بمال.
وكتب الربوا بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلوة والزكوة ، وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع.
{ لا يَقُومُونَ } [البقرة : 275] إذا بعثوا من قبورهم { إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَـانُ } [البقرة : 275] أي المصروع لأنه تخبط في المعاملة فجوزى على المقابلة.
والخبط : الضرب على غير استواء كخبط العشواء { مِنَ الْمَسِّ } [البقرة : 275] من الجنون وهو يتعلق بـ لا يقومون أي لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع ، أو
210
بـ ” يقوم ” أي كما يقوم المصروع من جنونه ، والمعنى أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف.
وقيل : الذين يخرجون من الأجداث يوفضون إلا أكلة الربا فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين ، لأنهم أكلوا الربا فأرباه الله في بطونهم حتى أثقلهم فلا يقدرون على الإيفاض { ذَالِكَ } العقاب { بِأَنَّهُمْ }
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
بسبب أنهم { قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَوا } [البقرة : 275] ولم يقل ” إنما الربا مثل البيع ” مع أن الكلام في الربا لا في البيع ، لأنه جيء به على طريقة المبالغة وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلاً وقانوناً في الحل حتى شبهوا به البيع.
{ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوا } [البقرة : 275] إنكار لتسويتهم بينهما إذ الحل مع الحرمة ضدان فأنى يتماثلان و دلالة على أن القياس يهدمه النص لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال الله وتحريمه { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ } [البقرة : 275] فمن بلغه وعظ من الله وزجر بالنهي عن الربا
211

(1/141)


{ فَانتَهَى } فتبع النهي وامتنع { فَلَهُ مَا سَلَفَ } [البقرة : 275] فلا يؤاخذ بما مضى منه لأنه أخذ قبل نزول التحريم { وَأَمْرُهُا إِلَى اللَّهِ } [البقرة : 275] يحكم في شأنه يوم القيامة وليس من أمره إليكم شيء فلا تطالبوه به { وَمَنْ عَادَ } [البقرة : 275] إلى استحلال الرباعن الزجاج أو إلى الربا مستحلاً { فَأُوالَـائِكَ أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ } لأنهم بالاستحلال صاروا كافرين لأن من أحل ما حرم الله عز وجل فهو كافر فلذا استحق الخلود ، وبهذا تبين أنه لا تعلق للمعتزلة بهذه الآية في تخليد الفساق.
{ يَمْحَقُ اللَّهُ الِرّبَوا } [البقرة : 276] يذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه { وَيُرْبِى الصَّدَقَـاتِ } [البقرة : 276] ينميها ويزيدها أي يزيد المال الذي أخرجت منه الصدقة ويبارك فيه ، وفي الحديث ما نقصت زكاة من مال قط .
{ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ } [البقرة : 276] عظيم الكفر باستحلال الربا { أَثِيمٍ } متمادٍ في الإثم بأكله.
{ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَواةَ وَءَاتَوُا الزكاة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة : 277] قيل : المراد به الذين آمنوا بتحريم الربا
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَواا } أخذوا ما شرطوا على الناس من الربا وبقيت لهم بقايا فأمروا أن يتركوها ولا يطالبوا بها.
روي أنها نزلت في ثقيف.
وكان لهم على قوم من قريش مال فطالبوهم عند المحل بالمال والربا { مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [البقرة : 91] كاملي الإيمان فإن دليل كماله امتثال المأمور به.
{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [البقرة : 279] فاعلموا بها من أذن بالشيء إذا علم ، يؤيده قراءة الحسن فأيقنوا.
فآذنوا ” : حمزة وأبو بكر غير ابن غالب.
فأعلموا بها غيركم ولم يقل بحرب الله ورسوله لأن هذا أبلغ ، لأن المعنى فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله.
وروي أنها لما نزلت قالت ثقيف : لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله { وَإِن تُبْتُمْ } [البقرة : 279] من الارتباء { فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ } [البقرة : 279] المديونين بطلب الزيادة عليها { وَلا تُظْلَمُونَ } [البقرة : 279] بالنقصان منها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } [البقرة : 280] وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة ذو إعسار { فَنَظِرَةٌ } فالحكم أوفا لأمر نظرة أي إنظار { إِلَى مَيْسَرَةٍ } [البقرة : 280] يسار.
ميسرة ” : نافع وهما لغتان { وَأَن تَصَدَّقُوا } [البقرة : 280] بالتخفيف : عاصم ، أي تتصدقوا برؤوس أموالكم أو ببعضها على من أعسر من غرمائكم.
وبالتشديد : غيره.
فالتخفيف على حذف إحدى التاءين ، والتشديد على الإدغام { خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة : 184] في القيامة ، وقيل : أريد بالتصديق الإنظار لقوله عليه السلام لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 184] أنه خير لكم فتعملوا به جعل من لا يعمل به وإن علمه كأنه لا يعلمه.
{ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ } [البقرة : 281] ترجعون : أبو عمرو فرجع لازم ومتعدٍ.
قيل : هي آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام وقال : ضعها في رأس المائتين
212

(1/142)


والثمانين من البقرة وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعدها أحداً وعشرين يوماً أو أحداً وثمانين أو سبعة أيام أو ثلاث ساعات { ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } [البقرة : 281] أي جزاء ما كسبت { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [البقرة : 281] بنقصان الحسنات وزيادة السيآت.
{ يُظْلَمُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } أي إذا داين بعضكم بعضاً.
يقال داينت الرجل إذا عاملته بدين معطياً أو آخذاً { إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } [نوح : 4] مدة معلومة كالحصاد أو الدياس أو رجوع الحاج ، وإنما احتيج إلى ذكر الدين ولم يقل إذا تداينتم إلى أجل مسمى ليرجع الضمير إليه في قوله { فَاكْتُبُوهُ } إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن ، ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال.
وإنما أمر بكتابة الدين لأن ذلك أوثق وآمن من النسيان وأبعد من الجحود ، والمعنى إذا تعاملتم بدين مؤجل فاكتبوه والأمر للندب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد به السلم وقال : لما حرم الله الربا أباح السلف.
وعنه : أشهد أن الله أباح السلم المضمون إلى أجل معلوم في كتابه وأنزل فيه أطول آية ، وفيه دليل على اشتراط الأجل في السلم
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
{ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ } [البقرة : 282] بين المتداينين { كَاتِبُ بِالْعَدْلِ } [البقرة : 282] هو متعلق بـ كاتب صفة له أي كاتب مأمون على ما يكتب يكتب بالاحتياط لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص ، وفيه دليل على أن يكون
213
الكاتب فقيهاً عالماً بالشروط حتى يجيء مكتوبه معدلاً بالشرع ، وهو أمر للمتداينين بتخير الكاتب وأن لا يستكتبوا إلا فقيهاً ديناً حتى يكتب ما هو متفق عليه { وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ } [البقرة : 282] ولا يمتنع واحد من الكتاب { أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ } [البقرة : 282] مثل ما علمه الله كتابة الوثائق لا يبدل ولا يغير وكما متعلق بأن يكتب { فَلْيَكْتُبْ } تلك الكتابة لا يعدل عنها { وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ } [البقرة : 282] ولا يكن المملي إلا من وجب عليه الحق لأنه هو المشهود على ثباته في ذمته وإقراره به فيكون ذلك إقراراً على نفسه بلسانه.
والإملال والإملاء لغتان { وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ } [البقرة : 283] وليتق الله الذي عليه الدين ربه فلا يمتنع عن الإملاء فيكون جحوداً لكل حقه { وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شيئا } [البقرة : 282] ولا ينقص من الحق الذي عليه شيئاً في الإملاء فيكون جحوداً لبعض حقه { فَإِن كَانَ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا } [البقرة : 282] أي مجنوناً لأن السفه خفة في العقل أو محجوراً عليه لتبذيره وجهله بالتصرف { أَوْ ضَعِيفًا } [البقرة : 282] صبياً { أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ } [البقرة : 282] لعي به أو خرس أو جهل باللغة { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ } [البقرة : 282] الذي يلي أمره ويقوم به { بِالْعَدْلِ } بالصدق والحق { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ } [البقرة : 282] واطلبوا أن يشهد لكم شهيدان على الدين { مِّن رِّجَالِكُمْ } [البقرة : 282] من رجال المؤمنين.
والحرية والبلوغ شرط مع الإسلام وشهادة الكفار بعضهم على بعض مقبولة عندنا
جزء : 1 رقم الصفحة : 208

(1/143)


{ فَإِن لَّمْ يَكُونَا } [البقرة : 282] فإن لم يكن الشهيدان { رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } [البقرة : 282] فليشهد رجل وامرأتان وشهادة الرجال مع النساء تقبل فيما عدا الحدود والقصاص { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ } [البقرة : 282] ممن تعرفون عدالتهم ، وفيه دليل على أن غير المرضي شاهد { أَن تَضِلَّ إِحْدَاـاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاـاهُمَا الاخْرَى } [البقرة : 282] لأجل أن تنسى إحداهما الشهادة فتذكرها الأخرى إن تضل إحداهما على الشرط فتذكر بالرفع والتشديد : حمزة كقوله : { وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } [المائدة : 95] (المائدة : 59).
فتذكر بالنصب : مكي وبصري من الذّكر لا من الذّكر { وَلا يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُوا } [البقرة : 282] لأداء الشهادة أو للتحمل لئلا تتوى حقوقهم ، وسماهم شهداء قبل التحمل تنزيلاً لما يشارف منزلة الكائن ، فالأوّل للفرض والثاني للندب { وَلا تَسْـاَمُوا } [البقرة : 282] ولا تملوا قال الشاعر :
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولاً لا أبالك يسأم
والضمير في { أَن تَكْتُبُوهُ } [البقرة : 282] للدين أو الحق { صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا } [البقرة : 282] على أي حال كان الحق من صغر أو كبر ، وفيه دلالة جواز السلم في الثياب لأن ما يكال أو يوزن لا يقال فيه الصغير والكبير وإنما يقال في الذرعي ، ويجوز أن يكون الضمير للكتاب وأن
214
تكتبوه مختصراً أو مشبعاً أو { إِلَى أَجَلِهِ } [البقرة : 282] إلى وقته الذي اتفق الغريمان على تسميته { ذالِكُمْ } إشارة إلى أن تكتبوه لأنه في معنى المصدر أي ذلك الكتب { أَقْسَطُ } أعدل من القسط وهو العدل { عِندَ اللَّهِ } [الحجرات : 13] ظرف لأقسط { وَأَقْوَمُ لِلشَّهَـادَةِ } [البقرة : 282] وأعون على إقامة الشهادة وبني أفعلا التفضيل أي ” أقسط ” و ” أقوم ” من أقسط وأقام مذهب سيبويه { وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا } [البقرة : 282] وأقرب من انتفاء الريب للشاهد والحاكم وصاحب الحق فإنه قد يقع الشك في المقدار والصفات وإذا رجعوا إلى المكتوب زال ذلك ، وألف أدنى منقلبة من واو لأنه من الدنو { إِلا أَن تَكُونَ تِجَـارَةً حَاضِرَةً } [البقرة : 282] عاصم أي إلا أن تكون التجارة تجارة أو إلا أن تكون المعاملة تجارة حاضرة غيره تجارة حاضرة على ” كان ” التامة أي إلا أن تقع تجارة حاضرة ، أو هي ناقصة والاسم تجارة حاضرة والخبر { تُدِيرُونَهَا } وقوله { بَيْنَكُمْ } ظرف لـ تديرونها ومعنى إدارتها بينهم تعاطيها يداً بيد { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا } [البقرة : 282] يعني إلا أن تتبايعوا بيعاً ناجزاً يداً بيد فلا بأس أن لا تكتبوها لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [البقرة : 282] أمر بالإشهاد على التبايع مطلقاً ناجزاً أو كالئاً لأنه أحوط وأبعد من وقوع الاختلاف ، أو أريد به وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع يعني التجارة الحاضرة على أن الإشهاد كافٍ فيه دون الكتابة والأمر للندب { وَلا يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } [البقرة : 282] يحتمل البناء للفاعل لقراءة عمر رضي الله عنه ولا يضارر وللمفعول لقراءة ابن عباس رضي الله عنهما ولا يضارر والمعنى نهي الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما ، وعن التحريف والزيادة والنقصان ، أو النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم ويلزّا ، أولاً يعطى الكاتب حقه من الجعل ، أو يحمل الشهيد مؤنة مجيئه من بلد { وَإِن تَفْعَلُوا } [البقرة : 282] وإن تضاروا { فَإِنَّهُ } فإن الضرار { فُسُوقُ بِكُمْ } [البقرة : 282] مأثم { وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] في مخالفة أوامره { وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } [البقرة : 282] شرائع دينه { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة : 282] لا يلحقه سهو ولا قصور.
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
{ وَإِن كُنتُمْ } [المائدة : 6] أيها المتداينون { عَلَى سَفَرٍ } [النساء : 43] مسافرين { وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَـانٌ } [البقرة : 283] فرهان : مكي وأبو عمرو أي فالذي يستوثق به رهن وكلاهما جمع رهن
215

(1/144)


كسقف وسقف وبغل وبغال ، ورهن في الأصل مصدر سمي به ثم كسر تكسير الأسماء.
ولما كان السفر مظنة لأعواز الكتب والإشهاد ، أمر على سبيل الإرشاد إلى حفظ المال من كان على سفر بأن يقيم التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتب والإشهاد لا أن السفر شرط تجويز الارتهان.
وقوله { مَّقْبُوضَةٌ } يدل على اشتراط القبض لا كما زعم مالك أن الرهن يصح بالإيجاب والقبول بدون القبض { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا } [البقرة : 283] فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين بحسن ظنه به فلم يتوثق بالكتابة والشهود والرهن { فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَـانَتَهُ } [البقرة : 283] دينه.
وائتمن افتعل من الأمن وهو حث للمديون على أن يكون عند ظن الدائن وأمنه منه وائتمانه له ، وأن يؤدي إليه الحق الذي ائتمنه عليه فلم يرتهن منه.
وسمي الدين أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان منه { وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ } [البقرة : 283] في إنكار حقه { وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَـادَةَ } [البقرة : 283] هذا خطاب للشهود { وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُا ءَاثِمٌ قَلْبُهُ } [البقرة : 283] ارتفع قلبه بـ ” آثم ” على الفاعلية كأنه قيل : فإنه يأثم قلبه ، أو بالابتداء وآثم خبره مقدم والجملة خبر ” إن ” .
وإنما أسند إلى القلب وحده والجملة هي الآثمة لا القلب وحده ، لأن كتمان الشهادة أن يضمرها في القلب ولا يتكلم بها ، فلما كان إثماً مقترفاً مكتسباً بالقلب أسند إليه لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ كما تقول ” هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي ” ، ولأن القلب رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله ، وإن فسدت فسد الجسد كله ، فكأنه قيل : فقد تمكن الإثم في أصل نفسه وملك أشرف مكان منه ، ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح ، ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر وهما من أفعال القلوب ، وإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أكبر الكبائر الإشراك بالله وشهادة الزور وكتمان الشهادة { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [البقرة : 265] من كتمان الشهادة وإظهارها { عَلِيمٌ } لا يخفى عليه شيء.
{ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَـاَامِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } خلقاً وملكاً { وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } [البقرة : 284] يعني من السوء { يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ } [البقرة : 284] يكافئكم ويجازيكم ولا
216

(1/145)


تدخل الوساوس وحديث النفس فيما يخفيه الإنسان ، لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه ولكن ما اعتقده وعزم عليه ، والحاصل أن عزم الكفر كفر وخطرة الذنوب من غير عزم معفوة ، وعزم الذنوب إذا ندم عليه ورجع عنه واستغفر منه مغفور.
فأما إذا هم بسيئة وهو ثابت على ذلك إلا أنه منع عنه بمانع ليس باختياره فإنه لا يعاقب على ذلك عقوبة فعله أي بالعزم على الزنا لا يعاقب عقوبة الزنا ، وهل يعاقب عقوبة عزم الزنا؟ قيل : لا لقوله عليه السلام : إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به والجمهور على أن الحديث في الخطرة دون العزم وأن المؤاخذة في العزم ثابتة وإليه مال الشيخ أبو منصور وشمس الأئمة الحلواني رحمهما الله ، والدليل عليه قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَـاحِشَةُ } [النور : 19] (النور : 91).
الآية.
وعن عائشة رضي الله عنها : ما هم العبد بالمعصية من غير عمل يعاقب على ذلك بما يلحقه من الهم والحزن في الدنيا.
وفي أكثر التفاسير أنه لما نزلت هذه الآية جزعت الصحابة رضي الله عنهم وقالوا : أنؤاخذ بكل ما حدثت به أنفسنا فنزل قوله آمن الرسول إلى قوله لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت فتعلق ذلك بالكسب دون العزم.
وفي بعضها أنها نسخت بهذه الآية ، والمحققون على أن النسخ يكون في الأحكام لا في الأخبار { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } [البقرة : 284] برفعهما : شامي وعاصم أي فهو يغفر ويعذب ، ويجزمهما : غيرهم عطفاً على جواب الشرط ، وبالإدغام : أبو عمرو ، وكذا في الإشارة والبشارة.
وقال صاحب الكشاف : مدغم الراء في اللام لاحن مخطىء ، لأن الراء حرف مكرر فيصير بمنزلة المضاعف ، ولا يجوز إدغام المضاعف ، ورواية عن أبي عمر مخطىء مرتين لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس في العربية ما يؤذن بجهل عظيم { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ } [المجادلة : 6] من المغفرة والتعذيب وغيرهما { قَدِيرٌ } قادر.
217
{ الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ } [البقرة : 285] إن عطف المؤمنون على الرسول كان الضمير الذي التنوين نائب عنه في { كُلٌّ } راجعاً إلى الرسول والمؤمنون } أي كلهم { ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَـائكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [البقرة : 285] ووقف عليه ، وإن كان مبتدأ كان عليه كل مبتدأ ثانياً والتقدير كل منهم وآمن خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأول ، وكان الضمير للمؤمنين ووحد ضمير كل في آمن على معنى كل واحد منهم آمن.
وكتابه : حمزة وعلي يعني القرآن أو الجنس { لا نُفَرِّقُ } [البقرة : 285] أي يقولون لا نفرق بل نؤمن بالكل { بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [البقرة : 285] أحد في معنى الجمع ولذا دخل عليه بين وهو لا يدخل إلا على اسم يدل على أكثر من واحد.
تقول المال بين القوم ولا تقول المال بين زيد.
{ وَقَالُوا سَمِعْنَا } [البقرة : 285] أجبنا قولك { وَأَطَعْنَا } أمرك { غُفْرَانَكَ } أي اغفر لنا غفرانك فهو منصوب بفعل مضمر { رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [البقرة : 285] المرجع ، وفيه إقرار بالبعث والجزاء.
والآية تدل على بطلان الاستثناء في الإيمان وعلى بقاء الإيمان لمرتكب الكبائر.
{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا } [البقرة : 286] محكي عنهم أو مستأنف { إِلا وُسْعَهَا } [الأعراف : 42] إلا طاقتها وقدرتها لأن التكليف لا يرد إلا بفعل يقدر عليه المكلف ، كذا في شرح التأويلات.
وقال صاحب الكشاف : الوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه أي لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ويتيسر عليه دون مدى غاية الطاقة والمجهود ، فقد كان في طاقة الإنسان أن يصلي أكثر من الخمس ويصوم أكثر من الشهر ويحج أكثر من حجة { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [البقرة : 286] ينفعها ما كسبت من خير ويضرها ما اكتسبت من شر ، وخص الخير بالكسب والشر بالاكتساب لأن الافتعال للانكماش
218

(1/146)


والنفس تنكمش في الشر وتتكلف للخير { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ } [البقرة : 286] تركنا أمراً من أوامرك سهواً { أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة : 286] ودل هذا على جواز المؤاخذة في النسيان والخطأ خلافاً للمعتزلة لإمكان التحرز عنهما في الجملة ولولا جواز المؤاخذة بهما لم يكن للسؤال معنى { رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا } [البقرة : 286] عبأ يأصر حامله أي يحبسه مكانه لثقله استعير للتكليف الشاق من نحو قتل الأنفس وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وغير ذلك { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } [البقرة : 286] كاليهود { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [البقرة : 286] من العقوبات النازلة بمن قبلنا { وَاعْفُ عَنَّا } [البقرة : 286] امح سيئاتنا { وَاغْفِرْ لَنَا } [التحريم : 8] واستر ذنوبنا وليس بتكرار فالأول للكبائر والثاني للصغائر { وَارْحَمْنَآ } بتثقيل ميزاننا مع إفلاسنا ، والأول من المسخ والثاني من من الخسف والثالث من الغرق { أَنتَ مَوْلَـانَا } [البقرة : 286] سيدنا ونحن عبيدك أو ناصرنا أو متولي أمورنا { فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ } [البقرة : 286] فمن حق المولى أن ينصر عبيده في الحديث من قرأ آمن الرسول إلى آخره في ليلة كفتاه وفيه من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل ويجوز أن يقال : قرأت سورة البقرة أو قرأت البقرة لما روي عن علي رضي الله عنه : خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش.
وقال بعضهم : يكره ذلك بل يقال قرأت السورة التي تذكر فيها البقرة والله أعلم.
219