منتخب حدائق الفصول وجواهر العقول – العقيدة الصلاحية

Arabic Text By Aug 28, 2010

 

منتخب حدائق الفصول وجواهر العقول – العقيدة الصلاحية

في علم الكلام على أصول أبي الحسن الأشعريّ
المعروف بـ العقيدة الصلاحيّة
للإمام الشّيخ تاج الدّين محمّد ابن هبة الله المكّيّ

في هذا الموضوع:

1. الأشعريّ شيخ أهل السّنّة والجماعة.
2. اهتمام السّلطان صلاح الدّين الأيوبيّ بنشر العقيدة الأشعريّة.
3. ترجمة الناظم الإمام الشيخ تاج الدين محمد بن هبة الله بن مكي.
4. منتخب حدائق الفصول وجواهر الأصول

ــــــــــــــــــــ

الأشعريّ شيخ أهل السّنّة والجماعة

الحمدلله واجب الوجود الذي تنزّه عن الأمكنة والأزمنة والأجزاء، والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمّد الذي رفع أعلام التنزيه وخفض بالأدلّة والبراهين ما تلوّثت به عقول أهل الزّيغ والتّشبيه، وعلى ءاله وصحبه الطّيبين الطّاهرين ورضي الله عمّن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدّين.
وبعد فإنّ الإمام أبا الحسن الأشعريّ رضي الله عنه من أعيان هذه الأمّة الإسلاميّة ومشاهيرها، وشيخ طريقة أهل السّنّة والجماعة وشهرته مستفيضة ومناقبه جليلة لا ينكرها إلا مبغض مبتدع.
ويكفي في بيان فضلِه أنّ على مذهبه واعتقاده الذي هو اعتقاد الصّحابة ومن تبعهم من السّلف الصّالح ومن أفاضل الخلف علماءُ مئات الملايين من المسلمين في الشّرق والغرب وأنّ أكابر الحفّاظ والمحدّثين والفقهاء واللغويّين والمتكلمين والمفسّرين وسائر أهل العلم إلى يومنا هذا أشاعرة.
فلهذا كله فإنّ منتدى السّنا المحمّدي يهتم بنشر المفاهيم السّليمة والعقيدة الصّحيحة وهي العقيدة الأشعريّة وإنه يسرّ منتدى السّنا أن يقدِّم منتخبًا من هذه المنظومة التي فيها بيان اعتقاد الأشاعرة ليسهل حفظها على المبتدئين.
ونسأل الله التّوفيق لِمَا يحبّ ويرضى إنّه على كلّ شيء قدير.
ــــــــــــــــــــ

اهتمام السّلطان صلاح الدّين الأيوبيّ بنشر العقيدة الأشعريّة

وكان السّلطان صلاح الدّين الأيوبيّ رحمه الله كما وصفه أصحاب التّراجم: شافعيّ المذهب أشعريّ الاعتقاد، وقد كان له اعتناء خاصّ بنشر عقيدة الإمام الأشعريّ رحمه الله وقد قال السّيوطيّ في [الوسائل إلى مسامرة الأوائل/ص15] ما نصّه: “إنّ السّلطان صلاح الدّين بن أيّوب أمر المؤذّنين في وقت التّسبيح أن يعلنوا بذكر العقيدة الأشعريّة فوظَّف المؤذّنين على ذكرها كل ليلة إلى وقتنا هذا”، أي إلى وقت السّيوطيّ المتوفّى سنة 911هـ.
ويقول الشّيخ محمّد بن علاّن الصّديقيّ الشّافعيّ ما نصّه: “فلمّا ولِيَ صلاح الدّين بن أيّوب وحمل النّاس على اعتقاد مذهب الأشعريّ أمر المؤذّنين أن يعلنوا وقت التّسبيح بذكر العقيدة الأشعريّة التي تُعرف بالْمُرْشِدِيَّةِ فواظبوا على ذكرِها كلّ ليلة” انتهى.
ولمّا كان للسّلطان المذكور هذا الاهتمام بعقيدة الأشعريّ ألَّف الشّيخ النحويّ تاج الدّين محمّد بن هبة الله المكيّ هذه الرّسالة – المنظومة وأسماها [حدائق الفصول وجواهر الأصول] وأهداها للسّلطان صلاح الدّين فأقبل عليها وأمر بتعليمها حتى للصّبيان في الكُتّاب وصارت تسمّى فيما بعد بـ [العقيدة الصّلاحيّة] نسبة إلى السّلطان صلاح الدّين.
ولا يُستغرَب هذا الاهتمام البالغ من السّلطان صلاح الدّين الأيوبيّ رحمه الله تعالى فإنّه كان على هذا الاعتقاد قد نشأ عليه منذ كان في خدمة السّلطان الملك العادل نور الدّين محمود بن زنكي في دمشق فحفظ صلاح الدّين في صباه عقيدة ألَّفَها قطْبُ الدين أبو المعالي مسعود بن محمّد بن مسعود النّيسابوريّ وصار يحفِّظُها صغارَ أولادِه فلذلك عقدَ جميعُ سلاطين بني أيوب الخناصر وشدّوا البنان على مذهب الأشعري واستمرّ الحال جميع أيّامهم وانتقل إلى أيّام السّلاطين المماليك ثم إلى سلاطين بني عثمان رحمهم الله تعالى إلى وقتنا هذا.
وشرف كبير لمنتدى السنا المحمدي أنْ يقوم بنشر هذه العقيدة عقيدة الأنبياء والمرسلين لما فيها من النّفع العميم.
ــــــــــــــــــــ

ترجمة الناظم الإمام الشيخ تاج الدين محمد بن هبة الله بن مكي

هو تاج الدين محمد بن هبة الله بن مكي [في بعض المراجع البرمكي] الحموي المولد، المصري الدار والوفاة، الشافعي الخطيب ولد بحماه سنة 546هـ.
قال تاج الدين في طبقات الشافعية : “كان فقيهًا فرضيًّا نحويًا متكلمًا، اشعري العقيدة، إمامًا من أئمة المسلمين، إليه مرجع أهل الديار المصرية في فتاويهم. وله نظم كثير، منه أرجوزة سمّاها [حدائق الفصول وجواهر الأصول] صنّفها للسلطان صلاح الدين، وهي حسنة جدًا نافعة، عذبة النظم” اهـ.
تفقه على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، وسمع بالإسكندرية من الحافظ أبي طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني، وبمصر من العلامة أبي محمد عبد الله بن بَرّي النحوي، وسمع أيضًا من بعض شيوخ المنذري، واعتنى بالمذهب، وجمع من كتبه جملة كبيرة، وكان شديد العناية بها وبتصحيحها والتنكيت عليها، وكتب بخطه كثيرًا، وولِيَ التدريس بالمدرسة الناصرية المجاورة للجامع العتيق بمصر، والخطابة بجامع القاهرة.
قال السبكي: “وجدت بخط ابن القَليوبيّ قي كتابه العلم الظاهر: كان الشيخ تاج الدين الحموي مُدرّسًا بالمدرسة الصلاحية وخطيبًا بالقاهرة، وكان كثير الاشتغال بالعلم دائم التحصيل له، وسمعت الشيخ الحافظ زكي الدين عبد العظيم يقول: دخلت عليه يومًا وهو في سَرَب تحت الأرض لأجل شدة الحر وهو يشتغل، قال: فقلت له: في هذا المكان وعلى هذا الحال. فقال: إذا لم أشتغل بالعلم فماذا أصنع.
وسمعته أيضًا يقول: وُجِدَ في تركته محابِرُ تَسَعُ إحداهن تسعة أرطال، والأخرى أحد عشر رطلا، والأخرى ثمانية، ووُجد في تركته أيضًا خمسون ديوانًا خُطبًا، وسمعت أن له ديوانًا لم أقف عليه.
وكان حسن الخط، جيد الانتقاد، رأيت كتاب البيان للعمراني بخطه وحواشيه أيضا بخطه، في مواضع كثيرة ينبّه عليها تدلّ على وفور علمه وكثرة اطلاعه.
قال الشيخ الحافظ: وكان يأخذ الكتاب بالثمن اليسير فلا يزال يخدمه حتى يصير من الأمهات” انتهى ما وجدته ونقلته من خط الشيخ كمال الدين بن القليوبي” اهـ.
توفي رحمه الله في السادس عشر من جمادى الآخرة سنة 599هـ بمصر.

مؤلفاته:

لم نقف له إلا على هذه المؤلفات وهي:

1- حدائق الفصول وجواهر الأصول، وهو هذا الكتاب الذي بين أيدينا.
2- روضة المرتاض ونزهة الفُرّاض، وهي أرجوزة في الفرائض يقول فيها:
 
جمعتها لجامع الفضائلِ ** الأوحدِ القاضي الأجلِّ الفاضلِ
محيي مَوَاتِ الفضلِ ذي الجَدِّ العلي ** عبدِ الرحيم بنِ أبي المجدِ علي
أهدي إليه قطرةً من بحرِهِ ** إذْ كلّ ما أنظمُه من نثرِهِ
وهْو الذي أجمع كلّ عالِمٍ ** في عصرِنا مِن ناثرٍ وناظمِ
بأنّه الحَبْرُ النسيجُ وَحْدِهِ ** في علمِه ودينِه وزهدِهِ
—————————————————————-

رحم الله من قال في شيخنا العبدري
 
وترى شَيْخاً جَليلاً **** عَلَماً في الناسِ أسْمَر

نَهْجُهُ فينا خَلاصٌ **** فيهِ إخلاصٌ تَيَسَّر

عِنْدَهُ الكَرْبُ تَلاشى **** عِنْدَهُ الهمُّ تَقَهْقَر

ذاكَ عبدُ اللهِ شيْخي **** شَرَحَ القوْلَ وفَسَّر

قامَ بالعلْمِ جِهاداً **** ومُتونَ العِلْمِ حَرَّر

أنَّني أُنْتمَى إليهِ **** فأنا واللهِ أفْخَر

———————————————————— 

الديوان

حدائق الفصول وجواهر الأصول

بسم الله الرحمن الرحيم

أفتَتحُ المقالَ بسمِ اللهِ * وأكِلُ الأمرَ إلى الإلَهِ
وأحمدُ اللهَ الذي قَدْ ألهَما * بفضلهِ دينًا حَنيفًا قَيّما
حَمدًا يكونُ مُبلغِي رٍِضوانَهْ * فهْوَ إلهي خَالقي سُبحانَهْ
ثُمَّ أصلّي بعدَ حَمدِ الصَّمَدِ * على النبيّ المصطفى محمَّدِ
وأسألُ اللهَ إلهَ الخَلْقِ * هدايةً إلى سَبيلِ الحقّ
فهذِهِ قواعِدُ العقائِدِ * ذكرْتُ منها مُعظَمَ المقاصِدِ
نظمْتُها شِعرًا يخِفُّ حِفظُهُ * وفَهمُهُ ولا يشِذُّ لفظُهُ
حَكيتُ فيها أعدلَ المذاهبِ * لأنَّه أنهَى مُرادَ الطالبِ
جَمعتُها للملِكِ الأمينِ * النَّاصرِ الغازي صَلاحِ الدّينِ
عزيزِ مصر قيصرِ الشَّامِ ومَنْ * ملَّكَهُ اللهُ الحِجازَ واليمنْ
ذي العَدلِ والجُودِ معًا والباسِ * يوسفَ مُحيي دولةِ العباسِ
ابنِ الأجَلّ السيدِ الكبيرِ * أيوبَ نَجمِ الدينِ ذي التَّدبيرِ
لا زالتِ الأيامُ طَوْعَ أمرهِ * والسَّعْدُ يَسعى معَ جيوشِ نصَرهِ
حتى ينالَ منتهى ءامالِهِ * مؤيَّدًا ممتَّعًا بآلهِ
لما استفاضَ في الأنامِ مَيلُهُ * إلى اعتقادِ الحقّ وهْوَ أهلُهُ
حَكيتُ فيهِ أعدَلَ المذاهبِ * إذْ كانَ أنهَى مُنتهَى المطالبِ
مَخَّضتُ كُتْبَ الناسِ واستخرجْتُها * لا فَضلَ إلا أنني ابتكرتُها
لقَّبتُها حدائقَ الفصولِ * ثمارُها جواهِرُ الأصولِ
وها أنا أبدأُ بالحَدّ كمَا * بدا بهِ في القَولِ مَن تقدَّمَا
لأنَّ مَن لم يعرِفِ الحُدودا * أضاعَ مما يَطلُبُ المقصُودا
فإنْ رأيْتَ حُمرةً في خَطّي * مُثبتَةً فهْيَ للفظِ شَرْطِ
أو لفْظِ حدّ فانْفِ مَا عداهُ * وحَرّرِ اللفظَ بحدِّ أداهُ
أو نُكتةٍ تصلُحُ أن تُميَّزا * وأنَّ ما فعلتُه تَحرُّزا
أو رسمِ فَصلٍ فاعرِف الإشارةْ * إذا أتَتْ كَي تُحسِن العِبارةْ
فإنَّما أوردتُهُ اضطِرارَا * وقدْ ذَكرتُ ذلكَ استظهارَا

فصل

قالَ شُيوخُ هذه الطريقةْ * لا فرْقَ بينَ الحَدّ والحَقيقةْ
وذكروا معناهُما مِنْ بعدُ * مُستوعبًا في كُلّ مَا يُحَدُّ
وهَا أنا أنقلُهُ وأوجِزُهْ * خَصيصَةُ الشىءِ التي تُميّزُهْ
وهكذا إنْ قيلَ ما الشىءُ وَما * مَائيَّةُ الشىءِ ومَا معناهُما
والشىءُ مِمَّا يستطيعُ حَدَّهُ * علا على الأشياءِ رَبي وحدَهُ
فكلُّها أسئلةٌ معدَّدَةْ * لفظًا وفي مَقصودِهَا مُتَّحدَهْ

فصل

واعلمْ بأنَّ الحَدَّ وصْفٌ راجعُ * حقًّا إلى المحدودِ وهْوُ قَاطِعُ
دونَ كلامِ الحَدّ فاعرِف لَفظي * وواظِبِ التَّكرارَ بعدَ الحِفظِ
وانفردَ القاضي لِسانُ الأمَّهْ * بمذهبٍ عن مُعظمِ الأئمّهْ
فقالَ إنَّ الحَدَّ وصْفٌ راجعُ * إلى كَلامِ الحَدّ وهْوَ شَاسِعُ

فصل

وأبلَغُ الألفاظِ في التحديدِ * ما قالَ أهلُ العلمِ بالتَّوحيدِ
وذاكَ مُختارُ الإمامِ الأوحَدِ * أبي المعالي بنِ أبي مُحمَّدِ
الحَدُّ لفظٌ يَجمعُ المحدُودا * ويَمنعُ النُّقصانَ والمزيدا
وقَال مَنْ قدْ أحكَمَ الأصُولا * أرى الذي ذكرتَهُ مَدخولا
وأوضَحَ الدَّخْلَ وأبدى قولَهُ * اللفظُ لا جَمْعَ ولا مَنعَ لهُ
واعلمْ بأنَّ الدخْلَ غيرُ مَاضي * إلاَّ على ما يرتضيهِ القاضي
وقيل فيما قدْ حكاهُ الأوَّلُ * الجَامعُ المانعُ وهْوَ مُجمَلُ
وقد سمعتُ فيهِ لفظًا رائقا * مُطَّرِدا منعكسًا مُوافقا
حرَّرَهُ فُحُولُ أهلِ المنطقِ * وسلكوا فيهِ أسَدَّ الطُّرُقِ
وهْوَ كما أذكرُ فافْهمْهُ كما * فهِمتُهُ تجدْهُ حَدّا مُحكمَا
قَوْلٌ وجيزٌ زِدهُ في صِفاتهِ * دلَّ على مَحدودِه من ذاتِهِ
واشترطُوا للحَدّ شَرطينِ هُما * جِنسٌ وفصْلٌ لا غَنَاءَ عنهُما
والرَّسمُ غيرُ الحَدّ فيما ذَكروا * قَد أطنَبوا في وَصفهِ وأكثروا
فالشىء لا يُحدُّ لكن يُرسَمُ * لعَدَمِ الفَصلِ كَذا قدْ رسمُوا

فصل

في أول ما يجبُ على المكلَّفِ

أوَّلُ واجبٍ على المكلَّفِ * البالغِ العاقلِ فَافهَمْ تكتَفِ
بالشَّرعِ لا بالعقلِ إذ لا حُكمَ لهْ * خَالفَنا في ذلكَ المعتزلهْ
مَعرفةُ اللهِ وقُدسِ ذاتِهِ * وكُلّ ما يَجوزُ منْ صفاتِهِ
وقيلَ بلْ أوَّلُ فَرضٍ لزِمَا * النَّظرُ المفضي إلى العلمِ بما
قدَّمتُهُ وإنما ضمَّنتُهُ * ليحصلَ المقصودُ ممَّا رمتُهُ
وقيلَ بل أوَّلُ جُزءِ النَّظرِ * واختارَهُ القاضي الجليلُ الأشعري
وذكَرَ الأستاذُ قولا رابَعا * أعني أبا بكرِ الإمامَ البَارِعا
فقالَ قصدُ النَّظرِ المفضي إلى * معرفةِ الصانِعِ بارينَا عَلا

فصل

في ماهية العقل

العقلُ لا يَقدِرُ أنْ يَحُدَّهْ * إلا إلهُ العالمينَ وحدَهْ
لأنَّه خَصيصَةٌ أودَعهَا * في الآدميّ جَلَّ مَن أبدعهَا
وكُلُّ ذي رُوحٍ لهُ إلهامُ * تَعجِزُ عَن إدراكِهِ الأفهامُ
كالنَّحلِ خُصَّ ببديعِ الهندَسَةْ * حَتى بَنى بيُوتَهُ مُسَدسَةْ
وهكذا خصائصُ الأحجارِ * مِنْ حِكمةِ المهيمنِ الجبَّارِ
وقدْ أطالَ البحثَ عنهُ السلفُ * وزادَ في الغَوصِ عليهِ الخلَفُ
واضطربت عبارةُ الأوائلِ * في حَدّهِ ومَا أتوا بطائلِ
وهُم أولو العُلومِ بالطَّبائِعِ * لا عِلمَ إلا للبَديعِ الصَّانِعِ
وأكثَروا التَّحديدَ والتَخليطا * حتَّى دعوْهُ جوهرًا بسيطا
وبعضُهُم أقرَّهُ في الرَّاسِ * وخصَّهُ بالقلبِ بعضُ الناسِ
فأقربُ الحدودِ في المعقولِ * ما قالَهُ أئمةُ الأصولِ
وقد حكاهُ صاحبُ الإرشادِ * فيهِ وقدْ عُدَّ منَ الأفرادِ
بعضُ العلومِ ثُم زادَ وصَفا * وهُو الضَّروريةُ ليسَ يخفى
هذا هو المختارُ فيما ذَكروا * وهْوَ على التًَّحقيقِ حَدٌّ مُنكَرُ
فإنْ يكُن بعضُ العلومِ مطلقَا * لا يعرفونَ عينَه مُحقَّقَا
فَهم بهِ من جُملةِ الجُهَّالِ * وما حَكَوْهُ ظاهرُ الإجمالِ
وإنْ يكُن عندَهُم مُعيَّنَا * هلاَّ أتَى في لَفظهم مُبيَّنَا
فإنَّ أنواعَ العُلومِ سِتَّةْ * ليس لها نوعٌ سِواها بتَّةْ
تُدرَكُ بالرؤيةِ والسَّمْعِ وما * أذكرُهُ من بعدُ حتَّى تفهَما
الشمُّ واللمسُ معًا والذوقُ * فهذِهِ الخمْسُ إليها التَّوْقُ
ومُدرِكُ السادسِ من أنواعها * النَّفسُ إذ ذلكَ من طِباعهَا
كعلمِ كُلّ عاقلٍ بصحَّتِهْ * وسُقمِهِ وعَجزهِ وقُدرتِهْ
والفرَحِ الحادثِ والآلامِ * ثمَّ العَمَى والقصدِ بالكلامِ
والقَطعِ في الأخبارِ بالتَّصديقِ * أو ضِدّهِ فيها على تحقيقِ
وأنَّ ما قامَ بهِ السُّكونُ * إذ كانَ في التحريكِ لا يكونُ
وما أحالَ العقلُ في الأضدادِ * كالجمعِ للبياضِ والسَّوادِ
وما تواترتْ بهِ الأخبارُ * فاسمعْ فهذا قالَهُ الأحبارُ
كالعلمِ بالملوكِ والأمصارِ * وما جرى في غابرِ الأعصارِ
ومعجزاتِ الأنبيا كمُوسى * والمصطفى محمَّدٍ وعيسى
فخَصّصِ العقلَ بنوعٍ منها * تجدهُ عندَ السَّبْرِ ينأى عنها
واعلمْ هُديتَ إنما تجوَّزوا * كي لا يُقالَ إنَّهُم قد عجزوا
وهُم أولو القرائحِ الوَقَّادَة * والعلمِ والسُّؤدَدِ والسّيادَة

فصل

في حقيقة العلم

 العِلمُ بَحرٌ حَدُّهُ لا يُعرفُ * قَد قالَه أهلُ الحِجى وأنصفوا
مع أنَّ كُلا غاصَ فيهِ جُهدَهُ * ولم ينَل بعدَ العناءِ قصدَهُ
وهُم ذَوو الفضائِلِ المشتهِرَة * العلماءُ الأذكياءُ المهرَة
وَهَا أنا أذكُرُ ما قالوهُ * ومَا منَ المأثورِ أوردوُهُ
معرِفَةُ المعلومِ قالَ الأوحَدُ * أبو المعالي إنَّهُ مُطَّرِدُ
حَكاهُ في التلخيصِ للتقريبِ * وقدْ أتى النقلُ على التَّرتيبِ
معَ أنَّه الحَبرُ حكَى في كُتْبِهِ * زيادةً وهْي عَلى ما هُوْ بِهِ
واختارَ هذا أكثرُ الأصحابِ * العَارفونَ سُبُلَ الصوابِ
وهْوَ كلامٌ ظاهرُ الفسَادِ * يَعرفُهُ ذو العلمِ والسَّدادِ
لأنَّهُم قَد جعلوا المعدومَا * من غيرِ خُلْفٍ بينَهم معلومًا
ومالَهُ مائيَّةٌ فتُحصَرا * ومَن أتى بجَهدِهِ مَا قصَّرَا
وقدْ أتوا فيهِ بلفظِ المعرِفَةْ * وهيَ والعلمُ سَواءٌ في الصّفَةْ
وإنْ تَقُلْ ما يُعلَمُ المعلومُ بهِ * كنتَ أسَدَّ قائِلٍ في مذهبِهِ
وقد أطالَ الناسُ في تَحديدِهِ * قِدمًا ولم يأتوا على مقصودِهِ
وبعضُهُم ينقُصُ حَدَّ بعضِ * حتَّى تساوَتْ كلُّهَا في النَّقضِ
وكلُّ ما قالوهُ إقناعيُّ * في معرضِ التحديدِ لا قَطعيُّ
وكلُّ لفظٍ عنهُم منقولِ * يقصرُ عَن مدارِكِ العُقولِ

فصل

في حدّ الجهل

وإنْ أردْتَ أن تَحُدَّ الجَهلا * مِن بَعدِ حدّ العلمِ كان سهْلا
وهْو انتفاءُ العلمِ بالمقصودِ * فاحفظْ فهذا أوجَزُ الحُدودِ
وقيل في تحديدهِ ما أذكُرُ * منْ بعدِ هذا والحُدودُ تكثُرُ
تصَوُّرُ المعلومِ هَذا حرفُهُ * وحَرفُهُ الآخَرُ يأتي وصفُهُ
مُستوعَبًا على خِلافِ هَيئتِهْ * فَافهَمْ فَهذا اللفظُ مِن تَتِمَّتِهْ

فصل

في حقيقة الشكّ والظنّ

أوجزُ لفظ قد أتى في حَدّه * تَجويزُ أمريْنِ وزِدْ مِن بعدِه
سِيَّانِ في التَّجويزِ وهْوَ ءاخرُهْ * وقَد أجادَ لَفظَهُ مُحرّرُهْ
وإنْ تقُلْ معَ ظهورِ الواحِدِ * تقِفْ منَ الظنّ على المقاصِدِ

فصل

في حدّ السهو

للسَّهوِ حَدٌّ مَن نَحا أن يَفهمَهْ * فهْوَ ذُهولُ المرءِ عمَّا علِمَهْ

فصل

في حدّ الدليل

وإنْ تُرِدْ مَعرفةَ الدَّليلِ * مِنْ غيرِ إطنابٍ ولاَ تطويلِ
فإنَّهُ المرشِدُ فافهَمْ لفظَهُ * وهْوَ إلى المطلوبِ أحكِمْ حِفظَهْ
وحَدُّهُ المأثورُ في التَّلخيصِ * لم يتأت لي على المنصوصِ
وهْوَ الذي ءاثرَهُ الفُحولُ * وشهِدَتْ بقطعِه العُقولُ

فصل

في تقسيم العلم

العلمُ قسمانِ سوى القديمِ * عِلمُ إلهي جَلَّ عن تَقسيمِ
قِسمٌ ضَروريٌّ فكلُّ عاقلِ * يعرفُهُ من عالِمٍ وجَاهلِ
ولاَ يسُوغُ الانفكاكُ عنهُ * لعاقلٍ والانفصالُ منهُ
هذا إذا ما صحَّتِ الآلاتُ * وانتفتِ الأسقامُ والآفاتُ
وقد مضتْ أنواعُهُ مستوعبَةْ * مُوجزَةً بيّنَةً مُهذَّبَةْ
والنَّظريّ قِسمُهُ الثاني فَما * أجلَّهُ فانظُر إلى أنْ تعلَمَا
فكُلُّ ما عرفتَهُ استِدلالا * فنظريٌّ فاعرِفِ الأمثالَ

فصل

في حد العالَم

فَكلُّ ما أوجدَهُ إلهُنا * عُبّرَ بالعالَم عنهُ هَاهُنا
وَهْوَ على نوعينِ نَوعٌ عَرَضُ * والآخَرُ الجوهَرُ تمَّ الغرَضُ
ومنهُما تأتلِفُ الأجسامُ * فاحفظ فكُلُّ حَافظٍ إمامُ
وليس يَعرى جوهَرٌ عنْ عَرَضِ * هذا هُوَ المختارُ فافهَمْ غَرضي
وأنكرَتْ جماعةُ الملاحدَةْ * العرَضَ المدرَكَ بالمُشاهدَةْ
وقدْ رأوْا تحرُّكَ الجَواهرِ * بعدَ سُكونٍ شاهدوهُ ظاهِرِ
وعقلوا فَرقًا ضروريًّا فمَا * أضلَّهُم إذْ جهِلوا مَا عُلِمَا

فصل

في حقيقة الجوهر

فكُلُّ ما حُيّز فهْوَ جَوهرُ * هذا هوَ المأثورُ ممَّا ذكروا
وقيلَ ما قامَتْ بهِ الأعراضُ * ومَا على ما قلتُهُ اعتراضُ
وقالَ قومٌ كلُّ جِرمٍ جَوهرُ * وهْوَ على شُذوذِهِ مُحرَّرُ

فصل

في حقيقة العَرَض

وما تقَضَّى بتقضّي الزَّمَنِ * فعَرَضٌ مثلُ اخضرارِ الدِّمَنِ
وسائرِ الطُّعومِ والألوانِ * والعَجزِ والقُدرةِ والأكوانِ
وكَالأرائِجِ وضَوءِ النَّارِ * وحرّها والليلِ والنَّهارِ
والموتِ والحياةِ والتأليفِ * والنُّطقِ والسُّكوتِ والتأفيفِ
والعلمِ والجهلِ فَسُقْ ما استبْهَمَ * في ضمنِ ما ذكرْتُ حَدّا أَمَمَا
وقالَ في تحديدِهِ ابنُ فُورَكا * ما لَمْ يقُم بنفسِه كَذا حَكى
وقالَ كلُّ بارعٍ مُستيقظِ * ما يتلاشى حينَ ينشا فاحفظِ

فصل

وجُملةُ الأعراضِ نوعانِ هُما * مُفارقٌ ولازِمٌ فاعرفهُما
أمَّا الذي يُفارقُ الجوهرا * فقدْ تراهُ يتلاشى ظاهِرا
واللازمُ الناشي من الأعراضِ * معَ التلاشي وهْوَ كالبياضِ
وسائرِ الألوانِ فاعرِفْ أصلَهُ * والحِقَنْ بكلّ نوعٍ مِثلَهُ

فصل

في بيان حقيقة الجسم

الجسمُ ما أولفَ منْ جواهِرِ * فهذهِ عبارةُ الأكابرِ
ومنهُمُ مَن قالَ جوهرينِ * فما يزيدُ فافهمِ الحَصرينِ

فصل

والعالمُ العلويُّ والسفليُّ * أنشأهُ إلهُنا العَليُّ
واعلمْ بأنَّ العُقلاءَ أطبقوا * قَطعًا على حُدوثِهِ واتفقوا
من سائرِ الأصنافِ كالجهميَّة * ومنكري الرُّسْلِ مع الجبريَّة
وشَذَّ عنهُم سائرُ الدَّهرية * في فِرقٍ من الهَيولائِيَّة
وأنكروا حُدوثَهُ في الأصلِ * ثُمَّ ادَّعَوا بقاءَهُ عَنْ فَضلِ
وكلُّ ما مضَى منَ الكلامِ * في حدَثِ الأعراضِ والأجسامِ
دَلَّ على الحُدوثِ بالمشاهدَةْ * كَما ذَكرناهُ معَ الملاحدَةْ
فالجسمُ لا يَخلو منَ الأعراضِ * كما حَكيتُ في الكلامِ الماضي
واعلمْ بأنَّ دَوَرَانَ الفَلَكِ * في حدَثِ العالَمِ أقوى مَسلَكِ
لأنَّهُ يحدثُ في العِيانِ * مُشاهدًا بحدَثِ الزَّمانِ
فالدَّوراتُ الحادثاتُ كالتي * في غابرِ الأعصارِ قدْ تولَّتِ
إذْ كلُّ ما ليستْ لهُ نهاية * يلزَمُ فرضُ الحُكمِ في البداية
فنفرِضُ المقصودَ في كلامِنا * في دورةٍ تحدُثُ في زَمانِنا
وكلُّ شىءٍ حادثٍ لا بدَّ له * مَنْ مُحدِثٍ فضَلَّ مَنْ قدْ جهِلَه
هذا الذي يلزَمُ في العقولِ * فافهمْ فذا أصلٌ من الأصولِ

فصل

وصانعُ العالَمِ فَردٌ واحِدُ * ليسَ لهُ في خلقِهِ مُساعِدُ
جَلَّ عن الشَّريكِ والأولادِ * وعزَّ عن نقيصةِ الأندادِ

فصل

في حقيقة الواحد

والواحِدُ الشىءُ الذي لا ينقسِم * والشىءُ إن أفردتَهُ لم يَقتسِم
وقدْ حكاهُ وارتضاهُ الماهرُ * أبو المعالي وهْو حَدٌّ قاصِرُ

فصل

وهْوَ قديمٌ ما لَهُ ابتداءُ * ودائمٌ ليسَ له انتهاءُ
لأنَّ كُلَّ ما استقرَّ قِدَمُهْ * فيستحيلُ في العقول عدَمُهْ

فصل

ليسَ بجسمٍ إذ لكلّ جسمِ * مُؤلِّفٌ مُخصِّصٌ بعلمِ
ويلزمُ المخصّصَ المؤلفا * مَا لزِم المنزّهَ المكلَّفَا
فينقضي القولُ إلى التسلسلِ * في عقلِ كُلّ يقِظٍ مُحصّلِ
أو ينتهي الأمرُ إلى قَديمِ * فيستوي في النهجِ القَويمِ
وهْوَ الذي سُمّي جلّ صَانِعا * وبارئًا ومُعطيًا ومانِعَا

فصل

ويستحيلُ أن يكونَ جوهَرا * مُجتزءًا أنعِمْ هُديتَ النَّظرا
ثم أعِدْ ما قلتُهُ هَنالِكا * ضلَّ النَّصارى حينَ قالوا ذلِكا
لأنَّ ما لا يسبِقُ الحوادثِا * يلزَمُ عقلاً أن يكونَ حادِثا

فصل

وإن سُئلتَ هل لهُ لونٌ أجِبْ * بِـ “لا” تعالى اللهُ عن لَونٍ تُصِبْ
سُبحانهُ هو الإلهُ الأحدُ * الملِكُ الأعلى القديرُ الصَّمَدُ

فصل

وصانِعُ العالَمِ لا يَحويِهِ * قُطْرٌ تعالى اللهُ عن تَشبيهِ
قَد كانَ مَوجودًا ولا مكانا * وحُكمُهُ الآنَ على مَا كانَا
سُبحانَهُ جَلَّ عَن المكانِ * وعَزَّ عَنْ تغيُّرِ الزَّمانِ
فقَدْ غلا وزادَ في الغُلوّ * مَنْ خصَّه بجهةِ العُلُوّ
وحصَرَ الصانعَ في السماءِ * مبدِعَها والعرشِ فوقَ الماءِ
وأثبتوا لذاتِه التحيُّزَا * قد ضلَ ذو التشبيهِ فيما جوَّزَا

فصل

قد استوى اللهُ على العرشِ كما * شاءَ ومَنْ كيَّفَ ذاكَ جسَّمَا
والاستواءُ لفظُهُ مشهُورةْ * لها معانٍ جمَّةٌ كثيرةْ
فنكِلُ الأمَرَ إلى اللهِ كما * فوَّضَهُ مَنْ قبلَنا مِنْ عُلمَا
والخَوضُ في غوامِضِ الصفاتِ * والغوصُ في ذاكَ منَ الآفاتِ
إذ في صفاتِ الخَلقِ مَا لا عُلِما * فَكيفَ بالخالِقِ فانْحُ الأسلَما

فصل

القول في الصفات

اعلمْ بأنَّ الاسمَ غيرُ التَّسميةْ * ومَا أرى بينَهما منْ تسويةْ
والوصفُ في مذهبِنا غيرُ الصّفةْ * فَاخترْ منَ السُّبُلِ سبُلَ النَّصَفَةْ
وتُحصَرُ الصفاتُ في أقسامِ * ثلاثةٍ تأتي على نظامِ
منها صفاتُ الذاتِ نحوُ قَاهرِ * وعالِمِ وقادرِ وظاهرِ
ثُمَّ صفاتُ الفعلِ نحوُ خالقِ * ومُنشىءٍ وباعثِ ورازقِ
ثُمَّ صفاتٌ إنْ أتَتْكَ مهْمَلَةْ * في اللفظِ كانت لهُما مُحتَملةْ
كمُحسنٍ ومثلُهُ اللطيفُ * جاءَ بمعنييهما التوقيفُ
إذْ لَفظَهُ الأحسنِ قد تُستعملُ * في العلم والإنعامِ فيما نَقَلوا

فصل

ونحنُ قبلَ الخوضِ في الصفاتِ * نُثبتُ فصلا جيّدَ الإثباتِ
يعُمُّ إن شاءَ الإلهُ نفعُهُ * ولا يَسوغُ منعُهُ ودَفعُهُ

——————————————————————–

رحم الله من قال في شيخنا العبدري

وترى شَيْخاً جَليلاً **** عَلَماً في الناسِ أسْمَر

نَهْجُهُ فينا خَلاصٌ **** فيهِ إخلاصٌ تَيَسَّر

عِنْدَهُ الكَرْبُ تَلاشى **** عِنْدَهُ الهمُّ تَقَهْقَر

ذاكَ عبدُ اللهِ شيْخي **** شَرَحَ القوْلَ وفَسَّر

قامَ بالعلْمِ جِهاداً **** ومُتونَ العِلْمِ حَرَّر

أنَّني أُنْتمَى إليهِ **** فأنا واللهِ أفْخَر

—————————————————————– 

فصل

اعلم أصبتَ نهَجَ الخَلاصِ * وفُزتَ بالتَّوحيدِ والإخلاصِ
إنَّ الذي يُؤمنُ بالرحمنِ * يُثبتُ ما قد جاءَ في القرءانِ
منْ سائرِ الصفاتِ والتَّنزيهِ * عنْ سَنَنِ التعطيلِ والتشبيهِ
من غيرِ تجسيمٍ ولا تكييفِ * لِما أتى فيهِ ولا تحريفِ
فإنَّ منْ كيَّف شيئًا منها * زاغَ عن الحقّ وضلَّ عنها
وهكذا ما جاءَ في الأخبارِ * عن النبيّ المصطفى المختارِ
فكُلُّ ما يُروى عنِ الآحادِ * في النصّ في التجسيمِ والإلحادِ
فاضربْ به وجهَ الذي رواهُ * واقطعْ بأنَّه قد افتراهُ
وإن يكُنْ رواهُ ذُو تعديلِ * صَدّقْهُ مهما شاعَ في التأويلِ
وأفرَدَ الأستاذُ في الأخبارِ * مُصنَّفًا يصلُحُ للأحبارِ
فاحفظْ هُديتَ هذهِ الأصولا * ثمَّ الزمَنْهَا ودعِ الفُضولا
فإنها مُجزئةٌ مَن قصَدا * مَعرفةَ الحقّ ومنهاجِ الهُدى
فهَهنا تشعَّبَ الإسلامُ * فاستسلَمَ الأئمةُ الأعلامُ
فأنكرتْ صِفاتِهِ المعتزلةْ * سُبحانَ من أنشأنا مَا أعدلَهْ
وجَعلوا كَلامَهُ في شجرةْ * لعبدهِ مُوسى ألا ما أنكرَهْ
وفِرقةٌ مالوا إلى القياسِ * فأثبتوها كَصفاتِ الناسِ
وبعضُهم أثبتَ منها البعضا * ثمَّ نفى البعضَ فجاءَ عُرْضا
ثمَّ الخلافُ بينَ مُثبتيهَا * في نفسها أكثرُ منهُ فيها
ولو أخذتُ أذكُرُ المذاهبَا * كنتَ تَرى في خُلفِها عَجائِبا

فصل

ءاضَ الكلامُ في الصفاتِ فاسمعِ * تَعدادَها على الوِلا واحفظ وعِ
وصانعُ العالمِ حيٌّ عالمُ * لأنَّه ربٌّ بَديعٌ حاكِمُ
حياتُهُ قديمةٌ كذاتهِ * وهكذا ما جاءَ من صفاتِهِ
كالعلمِ والقُدرةِ والإرادةْ * وقَد يُنافي أمرُهُ مُرادَهْ
وهو السميعُ القادرُ المريدُ * ذو البطشِ فعالٌ لِمَا يريدُ
ومنْ صفاتِ الصانعِ البصيرُ * ببصرٍ ليس لهُ نظيرُ

فصل

وصانعُ العالمِ ذو كلامِ * أوصلَ معناهُ إلى الأفهامِ
كلامُهُ المنزَلُ من صفاتِهِ * وهْوَ قديمٌ قائمٌ بذاتِهِ
وهو إذا تقرؤُهُ بالأحرُفِ * مِن بعدِ أن نكتُبَهُ في المصحفِ
تحفظُهُ الصدورُ ذِكرًا كلُّهَا * لكن على التحقيقِ لا يحُلُّها
ويُمنعُ المحدِثُ أن يَمسَّهُ * أو يُسبغَ الطُّهرَ الصَّحيحَ نفسَهُ
وإنما نفعلُهُ إجلالا * فاقنعْ بهذا وارفُضِ المُحالا
وليسَت التّلاوةُ المتَلوّا * زادَ ذَووا الحشوِ إذًا غُلُوّا
فميّزِ المقروءَ والمكتوبا * فاعتبرِ الحسابَ والمحسُوبا
وقُل لمن قدْ كيَّفَ الكلامَا * بالحَرفِ والصوتِ معًا سلامَا
فإنَّهم قد كابروا العِيانا * وخالفوا الدليلَ والبُرهانا
إذ عَدَّدوا القديمَ في المصاحفِ * وجعلوا حَديثها كالسَّالفِ
وهُم إذًا مُذ شاهدوا الكتابَا * قَد حَزَّبوا مَا كتَبوا أحزَابا
واختَلفت أقلامُهُم في الخطِّ * طرائقًا على اختلافِ الضَّبطِ
وهكذا يأتي أناسٌ بعدَهُم * ما كتبوا فهْو قديمٌ عندهُم
فيا أولي التشبيهِ والتجسيمِ * الحاءُ في الرحمنِ قبلَ الميمِ
وهكذا المتلوُّ في كلامِكُم * أيُّهُما القديمُ في اعتقادِكُم
أضللتُمُ الجهَّالَ بالتمويهِ * لما سلكتُم نهَجَ التَّشبيهِ
فمَن يقُل بعضَ الذي حكَيتُه*ُ قطعًا على الوجهِ الذي رويتُهُ
فذاكَ عَيْرٌ قالَ لفظًا عُوّدَهْ * أدّبهُ بالضربِ وقصِّر مقْوَدَهْ
ويعسُرُ التأديبُ إذ قدْ ألِفَهْ * اربطهُ في الشمسِ وقلّلْ علفَهْ
أعرِضْ قِلًى عن هؤلاءِ الجهلهْ * مَن يُضلِل اللهُ فلا هاديَ لهْ
وكُفَّ ما استطعتَ عَن إفهامِهِم * قد طبعَ اللهُ على أفهامهِم

القول في أفعال الله جلا وعلا

وصانِعُ العالمِ جلَّتْ قُدرتُهْ * قَد نفَذَتْ في خَلقِهِ إرادتُهْ
فكُلُّ ما يحدُثُ في الوجودِ * فهْوَ مُرادُ الواحدِ المعبودِ
فالفسقُ والعصيانُ والغَوَايةْ * والرُّشدُ والطاعةُ والهدايةْ
والكفرُ والشِّقوةُ والسعادةْ * لربّنا سبحانَهُ مُرادَهْ
وكلُّها حقًّا منَ اختراعِهِ * وكلُّ ما يكونُ من إبداعِهِ
والفعلُ كسبُ العبدِ وهوَ جاري * على مُرادِ الواحدِ الجبَّارِ
إذ لو يشاءُ لهدى الناسَ على * ما قالَ جلّ عن تعَدٍّ وعَلا
وهُوَ عَلى زَجرِ العبادِ قادرُ * سُبحانَهُ هُوَ القويُّ القاهرُ
واستيقِظن لفهمِ أصلِ المسئلةْ * فهَا هُنا تورَّط المعتزلَةْ

فصل

ما أمرَ اللهُ به عبادَهْ * ففيهِ ما لم يَجرِ في إرادَة
لأنَّهُ قد أمرَ الخليلا * في الوحيِ أن يذبحَ إسماعيلا
ولم يُرِدهُ إذ أتاهُ منهُ * وَحيًا لقد صدَّقتَ أمسكْ عنهُ
فكلُّ ما يبدو من التأويلِ * نُبطلُهُ في الحالِ بالدليلِ
وهكذا أخبرَ عَن أبي لهَبْ * عمّ النبيّ وابنِ عبدِ المطلبْ
بأنَّه يموتُ وهو كافرُ * ثُمّ سيصلى النَّارَ وهْوَ خاسرُ
لم يُغنِ عنهُ مالُه وما كسبْ * تبَّتْ يداهُ إذ عصى اللهَ وتَبْ
وكُلّفَ الإيمانَ بالإجماعِ * مِنْ غيرِ تأويلٍ ولا نِزاعِ
وينتهي القولُ إلى تكليفِ * مَا لا يُطاقُ فافهَمْنَ تعريفي
وهكذا قد كُلّف السُّجودا * إبليسُ حتما فعصى المعبُودا
فكيفَ يأتي مارِدٌ سُلطانُ * بضدّ ما يُريدُهُ الرحمنُ
وقد ترى ذلكَ في العقولِ * مُجوَّزًا في المثَلِ المنقولِ
فنذكرُ الآنَ المثالَ لفظَا * فاسمعْهُ نَقلا واحكمْنَهُ لفظَا
عبدٌ شكَى مولًى إلى السلطانِ * ونسبَ المولى إلى العُدوانِ
فاستُدعيَ المولَى فجاءَ ذَعِرَا * أنَّبَهُ السلطانُ لمَّا حضَرا
أرادَ أن يعرِفَ مَن قدْ أنَّبَهْ * على تعدّيهِ عليهِ سبَبَهْ
وأنَّهُ يخالفُ الأوامِرا * يُعانِدُ المولى عنادًا ظاهرَا
فقالَ للسلطانِ يا مولانا * مَهلا ترى عِصيانَهُ عِيانَا
فاستحضرَ العبدَ إلى مجلسِهِ * ولمْ يُفاجئْهُ بما في نفسِهِ
وأمرَ العبدَ بما أرادا * خِلافَهُ كي يُظهرَ العِنادَا
ليعلمَ السلطانُ صدقَ عُذرِهِ * ولم يرِدْ منهُ امتثالَ أمرِهِ
فانظرْ مثالاً حسنًا عجيبَا * نهايةً رتّبتُهُ ترتيبَا
أعملتُ جَهدي غايةَ الإعمالِ * إذ هُوَ منْ شواردِ الأمثالِ
مثّلَهُ مَن أحكمَ العلوما * وعرَفَ الخصوصَ والعُمومَا
مُستشهدًا بشاهدِ العقولِ * لينظُرَ الحكمةَ في المنقولِ

فصل

وصانعُ العالمِ لمَّا اخترعَهْ * بمَنّهِ وطَوْلِه وأبدعَهْ
لم يكُن الخَلقُ عليهِ واجِبَا * ولا قَضى بخلقِهِ مآرِبَا
وما لَه في خلقِه أغراضُ * ولا عليهِ لهُم اعتراضُ
إذ هُو لا يسئلُ عمَّل فعلَهْ * إلاَّ على ما قالَهُ المعتزلهْ

فصل

للهِ أن يُكلّفَ العبادا * مَا لا يُطيقونَ متى أرادا
ولو يشاءُ عندنا أهملَهُم * بأسرِهِم من غيرِ تكليفٍ لهُم
وهكذا للواحِدِ الجبارِ * إنشاؤُهم في جنَّةٍ أو نارِ

فصل

لربّنا سبحانَهُ تعالى * أن يُؤلمَ الدَّوابَ والأطفالا
بملكِهِ من غيرِ جُرمٍ سابقِ * منهُم ومنْ غيرِ ثوابٍ لاحقِ
وأنْ يُثيبَ كُلّ مَنْ عصاهُ * ويَمنعَ الثوابَ مَنْ أرضاهُ
ويستحيلُ وصفُهُ بالظلمِ * والجوْرِ إذ هُم ملكُهُ في الحُكمِ
لكنَّه منَّ على مَن عبدَهْ * تفضُّلاً منهُ بما قد وعدَهْ
ليس بحقّ واجبٍ مَحتومِ * ولا بِفرضٍ لازمٍ مَجزومِ
وإنما ذلكَ فَضلُ جُودِهِ * يَمنحُهُ مَن شاءَ مِن عبيدِهِ
فكُلُّ منَ أثابَهُ فإنما * يُثيبُهُ بفضلِهِ تكرُّمَا
وكلُّ مَن عاقبَه من خلقِهِ * فإنما يفعلُ بعضَ حقّهِ

فصل

لصانِعِ العالمِ أن يقضيْ بما * شاءَ ولا يلزمُهُ أن يُنعِما
ولا عليهِ أن يُراعيْ الأصلحا * لأحدٍ منَّا ولا أنْ يمْنحَا
إذ ذاكَ لا حدَّ لهُ فيُحصَرا * ولا لَهُ نهايةٌ فتذكَرَا
فكلُّ ما يُقالُ هذا الأصلحُ * ففوقَهُ مَا هوَ منهُ أرجَحُ
فنُوضحُ القولَ معَ المعتزلةْ * بجملةٍ تكشفُ سرَّ المسئلةْ
فأصلحُ الأشياءِ للعبادِ * كَفُّهُمُ عن سبُلِ الفسادِ
وأنْ يكونوا حالةَ الإنشاءِ * في جنَّةٍ دائمةِ البقاءِ
وليسَ للموتِ إليهم نهَجُ * يسلُكُهُ ولا عليهِم حَرَجُ
وأن يكونَ الخلقُ ذا استواءِ * في حالةِ الدَّوامِ والإنشاءِ
على أتمّ الصُّورِ المستحسنَةْ * فاعرفْ سبيلَ الحقّ والزمْ سُنَنهْ
واعلمْ بأن فوقَ ما أصَّلتُهُ * مَراتبًا ترجَحُ عما قلتُهُ
وما نرى الخالقَ راعى الأصلحا * للخلقِ لكن جَهلُهُم قدْ وضَحَا

فصل

إلهُنا سبحانه تعالى * قد قدَّرَ الأرزاقَ والآجالا
فكلُّ ما ينتفِعُ المخلوقُ بهْ * فرزقُهُ معَ اختلافِ سبَبِهْ
وينطوي في ذلكَ الحَرامُ * وهكذا قد قالَهُ الأعلامُ

فصل

وإنَّ مَنْ ماتَ بهدمٍ أو غرَقْ * أو ضُرّمَتْ عليهِ نارٌ فاحترَقْ
فقد قضى من الحياة أجلَهْ * وجاحِدُ الحقّ سيلقى عملَهْ

فصل

ومُدركُ التحسينِ والتَّقبيحِ * الشرعُ لا العقلُ على الصَّحيحِ
هذا الذي ارتضاهُ أهلُ الحقّ * قاطبةً دُونَ جَميعِ الخلقِ
من سائرِ الأصنافِ كالمعتزلةْ * وغَيرِهِمْ منَ الرَّعاعِ الجهلَةْ
فإنَّهُم قَد قسَّموا الأفعَالا * ثلاثةً أذكُرُها ارتِجالا
فواحِدٌ مُدرَكُهُ بالعقلِ * ضرورةً وواحدٌ بالنقلِ
فالكذبُ المفضي إلى إضرارِ * يُعلمُ قُبحُهُ عَن اضطرارِ
وهكذا يُعلمُ حُسنُ الصّدقِ * المقتضي للنُّصحِ فافهمْ نُطقي
وواحدٌ مُدرَكُهُ بالنَّظَرِ * كالكذبِ المُبدي لدَفعِ الضَّررِ
والصدقِ إن أفضَى إلى فسَادِ * وقَد أتى القولُ على السَّدادِ
وكُلُّ ما يلزَمُ بالتَّحَكُّمِ * وهْوَ يُنافي العقلَ كالتيمُّمِ
والغُسلِ والصلاةِ والصيامِ * والسعي والطوافِ والإحرامِ
فإنَّه يُدرَكُ بالسَّماعِ * مِن قِبَلِ الشَّارِعِ بالإجماعِ
واعلم بأنَّ كلَّ ما قالوهُ * وأطنبوا فيهِ وقسَّمُوهُ
زَخارفٌ حسَّنها التَّنميقُ * يُظهِرُ أصلَ زيفِها التَّحقيقُ
إذ جعلوا فيهِ ضروريا ومَنْ * حقّ الضَّروريّ الوِفاقُ فاستَبِنْ
كما يُحيلُ العقلاءُ جهلَهُ * أن يخلُقَ الرَّبُّ إلهًا مثلَهُ
ويعلمونَ أنَّ كُلَّ أحدِ * أقلُّ مما فوقَهُ منْ عَددِ
فإذ رأى الخِلافَ أهلُ الحقِّ * وهُم على التَّحقيقِ جُلُّ الخَلقِ
أُبطِلَ قطعًا ما ادّعوا معرفتَهْ * ضَرورةً بالعقلِ فاحفظْ صيغتَهْ
وكلُّ ما تدخلُهُ الدَّلالةْ * فنَظَريُّ النوعِ لا محَالةْ
وها هُنا يَمتنِعُ المناظِرُ * أن يذكُرَ الدليلَ وهو ظِاهرُ
والحسنُ المقولُ فيهِ افعَلْ كما * قَد حدَّهُ مَن قدرُهُ قَد عَظُما
فنُوضِحُ الحقَّ بفرضِ مسئَلَةْ * مَتينَةِ الإلزامِ جِدّا مُشكِلَةْ
وهي على التَّحقيقِ أقوى الأسئِلَةْ * ألا اسمعوا مَعاشِرَ المعتزلَةْ
أليسَ أن الحقَّ حقّا حكَمَا * بأنَّ مَن لهُ عبيدٌ وإمَا
سلَّطهُم على الفسادِ فطَغَوا * وانهمكوا فيهِ وضلُّوا ولغَوا
وأهلَكَوا الأولادَ والأموالا * وقتلوا النّساءَ والرّجالا
وهوَ على رَدعهمُ قديرُ * لو شاءَ لا يلحقُهُ تقصيرُ
عُدَّ سفيهًا حمِقًا مُهَوَّرَا * إذ لو يشاءُ لأزالَ المنكرَا
أليسَ هذا حُكمَهُم في الشَّاهِدِ * فيما يرَوْنَ في الإلهِ الواحِدِ
وإن يقولوا إنَّه قَد عجَزَا * تلفَّظوا بالكُفر لفظًا مُوجزَا
وإن يقولوا إنَّه جبَّارُ * ذُو قُوَّةٍ مَتينةٍ قَهَّارُ
التزموا القَولَ بأنَّ الحُكمَا * بالشَّرْعِ لا غيرَ مَنوطٌ حَتما
وهذهِ قاعدةٌ مشهورةْ * تأتيكَ في أسئلةٍ كثيرةْ
كقولِ من قالَ لنا وصرَّحَا * إنَّ عليهِ أن يُراعيْ الأصلحا
وهكذا الكلامُ في الأفعالِ * وخلقِهَا والرزقِ والآجالِ

فصل

وجُملةُ الإيمانِ قولٌ وعمَلْ * ونيَّةٌ فاعملْ وكُنْ عَلى وَجَلْ
فإنَّه ينقُصُ بالعِصيانِ * فاخضَعْ إذًا في السرّ والإعلانِ
وَواظب الطَّاعةَ والعِبادَةْ * تزِدْ بها فاغتنِمْ الزيادةْ
هذا مَقَامُ المتقدّمينا * ذَوي التُّقى الجَمّ المحدّثينا
وهذهِ اللفظةُ في التَّحقيقِ * مَوضوعةٌ في الأصلِ للتصديقِ
وذاكَ فِعلُ القلبِ كالإرادةْ * لا يَقبلُ النُّقصانَ والزّيادةْ
هذا الذي مالَ إليهِ الأشعري * وَهوَ عن التشبيهِ والإفكِ عَري

القول في النبوات

وليسَ يستحيلُ بَعثُ الرُّسُلِ * في عقلِ كُلّ فَطنٍ مُحصِّلِ
فذا مَقالُ المتشَرّعينَا * منْ سائرِ العالَمِ أجمَعينا
وهُم إذًا ذوُو العقول السالِمَةْ * وقدْ أحالَ ذلكَ البراهِمَةْ
وجعلوا العُمدةَ في التَّصحيحِ * مسئلةَ التَّحسينَ والتَّقبيحِ
وقدْ مضَى كلامُها مُستوعبَا * جَزْلاً قَويّا بَيّنًا مُهذّبَا
فليتَ شعري ما الذي أحَالهْ * أم أينَ وَجهُ هذهِ الدّلالةْ

فصل

في حقيقة المعجزة

وكُلُّ فِعلٍ خَرَقَ العاداتِ * وبانَ عَن وهْنِ المعارَضاتِ
جَاءَ بهِ مَنْ يدَّعي النُّبوة * معَ تحدّيهِ بهِ في القُوَّة
فذلكَ الفعلُ الذي قَد أظهرَهْ * مُعجزةً تُثبتُ مَا قدْ ذكرَهْ
وسُمّيتْ مُعجزةً لكونِها * تُعجزُ كُلّ أحَدٍ عَن فنّهَا
والمعجِزُ اللهُ وليُّ الحِفظِ * وإنَّما تَجوَّزوا في اللفظِ
وهْي إذًا تَنزلُ في المثالِ * منزلةَ التصديقِ في المقالِ
هذا هو المختارُ في الإرشادِ * فاسمَعْ مثالَ ذاكَ مِن إيرادي
إذا تصدَّى ملِكٌ كبيرُ * ذُو سَطوةٍ ومَجْدُهُ مشهورُ
للخلْقِ في مَجلسِهِ فاحتشَدُوا * واجتمعوا عليهِ حتَّى قعدُوا
وجاءَ مِنْ أقصا البلادِ الناسُ * وازدحَمَ القِيَامُ والجُلاَّسُ
فقَامَ مِنْ أصحابِهِ إنسانُ * مُنتصبًا شاهدَهُ السُّلطانُ
صَاحَ بأعلاَ صوتِهِ في النادي * ألا اسمَعُوا مَعاشرَ الأشهادِ
قد جاءَكُم أمرٌ عظيمُ الشَّانِ * فاستمِعوا من قَبلهِ بُرهاني
أنا رسولُ الملكِ الجليلِ * إليكُم وفِعلُهُ دَليلي
يا أيُّها السلطانُ فانقض عادتَكْ * وقُمْ إذًا واقعُدْ وخالِف سُنَّتَكْ
ليعلموا حَقيقةَ الرسالةْ * بمَا يرونَهُ منَ الدّلالةْ
وأنَّ حقّا كلُّ ما أحكيهِ * عنكَ ومهمَا قُلتَ ترتضيهِ
فامتثَلَ السلطانُ ما قدْ سألَهْ * صاحبُهُ فصحَّ ما قدْ نقلَهْ
وصارَ عندَ الحاضرينَ بتَّا * كأنَّهُ قالَ لهُ صدقتَا
فانظُرْ إلى عجائبِ الأمثالِ * أتَتْ بها خواطِرُ الرّجالِ

فصل

في نبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

وقَدْ أتى نبيُّنا المؤَيَّدُ * الهاشميّ المصطفى محمَّدُ
بمُعجزاتٍ في الأنامِ اشتهَرَتْ * ثُمَّ إلى جَميعهِ تواترتْ
أوَّلُهَا القرءانُ ذُو الإعجازِ * بالنَّظمِ والأخبارِ والإيجازِ
وكانَ أميّا كمَا تواترَا * فَقَصَّ أخبارَ الألى كمَا تَرى
أنبأ عمَّا قد جرى في القِدَمِ * للأنبياءِ وجَميعِ الأممِ
باينَ نظمَ الشّعرِ والرَّسائلِ * وسائرَ الأسجاعِ بالفواصلِ
فالعرَبُ اللذُو ذُوو الإعجابِ * والتّيهِ بالأشعارِ والخطابِ
حينَ أصاخُوا سمِعوا كَلامَا * لا يعرفونَ مثلَه نِظامَا
فاجتهدوا في أنْ يُعارِضُوهُ * فذكروا لفظًا ولم يَرضَوهُ
ولوْ سمعتَ ما الذي قالوهُ * واحتفلوا لكي يُماثِلُوهُ
لقُلتَ ما كانوا ذَوي ألبابِ * ولا لهُم فصاحَةُ الأعرابِ
فالعقلاءُ ءاثَروا الإيمانَا * حينَ رأوْا ما سمِعوا عِيانَا

فصل

وأخبرَ الناسَ عن الغيبِ بمَا * يكونُ من بَعدُ على مَا أُلهِمَا
فكانَ ما أخبرَ عنهُ حَقَّا * ووجدوا ذلكَ منهُ صِدقَا
حنَّ إليهِ الجِذعُ وانشقَّ القمَرْ * وجاءَ سَحًّا عندما استسقى المَطَرْ
ونبعَ الماءُ على التَّتَابُعِ * في كَفّهِ مِنْ خَلَلِ الأصابِعِ
وهكذا خاطبَهُ الذّراعُ * لفظًا وعتْ مضمونَهُ الأسماعُ
فقالَ ذَرني إنَّني مَسموعُ * وهْوَ كلامٌ مُعربٌ مَفهومُ
ونطَقَ الوَحشُ لهُ وصرَّحَا * ثُمَّ الحَصى في كفّه قدْ سبَّحَا
وأشبَعَ الخلقَ الكثير مرَّةْ * منَ اليسيرِ ورواهُ جَهرةْ
أُسريَ به في ليلةٍ فعادَا * فعرَفَ الأعلامَ والبِلادَا
ما بينَ أرضِ المسجدِ الحرامِ * والمسجدِ الأقصى بأرضِ الشامِ
ولم يكُنْ أضغاثَ أحلامٍ ولا * يقولُهُ منْ نفسِهِ تقوُّلا
فكيفَ قيلَ إنَّهُ افتراهُ * وقدْ حكَى للناسِ ما رءاهُ
فعلِموا صِحَّتَهُ إيقانَا * وقدْ رَأوْا ما قالهُ عِيانَا
وللنبيّ معجزاتٌ جَمَّةْ * مشهورةُ الوجودِ عندَ الأمَّةْ
الناسُ في ذلكَ قد توسَّعُوا * فاقنعْ وفيما قَد حكيتُ مقنَعُ

فصل

وبعدَ أن قد ثبتَتْ دَلالَتُهْ * صحَّتْ بما جاءَ بهِ رسالتُهْ
ونسخَتْ شرعَ الألى شريعتُهْ * ووَجَبَتْ على الأنامِ طاعتُهْ
وختمَ اللهُ بهِ الرسالةْ * حقّا وقد شرَّفَهُ وءالَهْ

فصل

وكلُّ ما جاءَ عن الرسولِ * نقلاً تلقَّيناهُ بالقَبولِ
كالخبَرِ الواردِ في الأهوالِ * القبرِ والعذابِ والسؤالِ
فيسألُ الميَتَ حَقّا مُنكَرُ * وعندَهُ نكيرُ فيما يُذكَرُ
عَن ربّهِ جَلَّ وعَن شريعتِهْ * مِنْ بَعدِ عَوْدِ رُوحِهِ في جُثَّتِهْ
وهكذا جاءَ عَن الرسولِ * وكلُّهُ يَجوزُ في العقولِ
لأنَّ من أنشأ أصلَ العالَمِ * يُعيدُ رُوحًا عندَ كُلّ عالِمِ
فقُل إذًا كقولِ كُلّ حَبْرِ * ربّ أعِذني من عذابِ القبرِ
إذْ هُو حقٌّ يَجبُ الإيمانُ * بهِ كما قدْ قالَه الأعيانُ
وجاءَنا في الخبرِ المرويّ * الثابتِ النَّقلِ عن النبيّ
القبرُ روضةٌ من الجنانِ * أو حُفرةٌ من حُفَرِ النيرانِ

فصل

ويجبُ الإيمانُ بالميزانِ * لأنَّه قد جاءَ في القرءانِ
في كفَّتَيْهِ تُوزنُ الأعمالُ * فتظهرُ الأقوالُ والأفعالُ
فيندَمُ العاصي على ما أجرَما * ويفرَحُ المحسنُ ممَّا قدَّمَا

فصل

وهكذا الصراطُ في القرءانِ * مكَرَّرُ اللفظِ معَ البيانِ
يُمَدُّ فيما جاءَ في الأخبارِ * مُصحَّحًا على شفيرِ النارِ
يمُرُّ كلُّ مؤمنٍ بسُرعةْ * عليهِ والويلُ لأهلِ البدعةْ

فصل

ويجبُ الإيمانُ بالحسابِ * والبعثِ والوقوفِ والعقابِ
وكُلِّ ما جاءَ من الوعيدِ * والوعدِ في القرءانِ والتهديدِ

فصل

والنارُ والجنَّةُ قد أُنشئَتا * إذ أذِنَ اللهُ وقد أُعِدَّتَا
وأنكرتْ جماعةُ المعتزلةْ * خلْقَهُما فضَلَّ مَن قدْ جهِلَهْ
إذ جاءَ في ءايِ القرءانِ * خلقُهُما فصارَ كالعِيانِ

فصل

والحوضُ والمقامُ والشفاعةْ * لسيّدِ السُّنّةِ والجماعةْ
محمَّدٍ ذي الشرفِ العظيمِ * في الحشرِ والميزةِ والتقديمِ
فليسَ يبقى في الجحيمِ أحدُ * شفيعُهُ نبيُّنَا محمَّدُ
ومَن أتى كبيرةً من أمَّتِهْ * فإنَّهُ يدخُلُ في شفاعتِهْ

فصل

في رؤية الخالق جل وعلا

وقد أتى في الخبَر المنقولِ * الثابتِ النقلِ عن الرسولِ
رؤيةُ ربّ الخلْقِ في القيامةْ * كالقمرِ النائي عن الغَمامةْ
ولم يُرِدْ بضربِهِ المثالا * إلا انتفاءَ الشكّ والإجلالا
إذ رؤيةُ الخالقِ لا تُكيّفُ * هذا الذي كان عليهِ السلفُ
فمُنكروها خالفُوا الرسولا * وعاندوا النقولَ والمعقولا
ولا يَرى الخالقَ إلا مسلمُ * منزِّهٌ لذاتِهِ مُعظّمُ
خالٍ عن البدعةِ والضَّلالةْ * لا كالذي ظنَّ أولُو الجهالةْ

فصل

وكلُّ مَن ماتَ على عِصيانِ * يَجوزُ أن يُعَمَّ بالغُفرانِ
عَقلاً وفي الحُكمِ سيصلى النارَا * ورافِضَ الإسلامِ والكفَّارَا

فصل

ومَن أتى كبيرةً لا يخرُجُ * عَنْ دينِه قد ضلَّتِ الخوارجُ
ممَّا سِوى الكفرِ كذا قدْ قيَّدوا * وأحسنُوا إذ بيَّنوا ما أورَدُوا

فصل

في الإمام الحقّ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم

ثُمَّ الإمامُ الحقُّ مَن قدْ بايعَهْ * صحْبُ النبيّ وكذا مَنْ تابعَهْ
وقد دعَوْهُ كلُّهُم مِرارَا * خَليفةَ الرسولُ واستطارَا
ولم يكُنْ قال النبيُّ أصلا * فُلانٌ الخَالِفُ بَعدي فَصلا
لكنَّهُ كانَ إذا ما جُهِدَا * استخلَفَ الصديقَ مِصباحَ الهُدى

فصل

واشتهَرَتْ توليةُ الصّديقِ * لعُمرَ المخصوصِ بالتَّحقيقِ
ففتحَ الأمصارَ في خلافتِهْ * وأنشأَ الديوانَ في وِلايتِهْ
وخصَّهَا لستّةٍ من بعدِهِ * لفضلِهِم وحزمِهِ وزُهدِهِ

فصل

فبايعَ الخمسةُ عُثمانَ ولمْ * يحْكِ أمينٌ أنَّ عُثمانَ ظلَمْ
ولم يكُنْ ذاكَ الكتابُ أملَلَهْ * فقاتَلَ اللهُ لعينًا قتلَهْ
وهبْكَ أنَّه كما تُقُوّلا * هل يجبُ القَتلُ على مَنْ أمْللا
ومَن يقُلْ إنَّ عليّا مُتّهَمْ * في قَتلهِ ضلَّ وأخطأَ واجترَمْ
لأنَّهُ قَد قامَ في نُصرَتِهِ * وأنفَذَ الحسينَ في نَجدتِهِ

فصل

ثُمَّ عليٌّ بعدَهُ الإمامُ * زَوجُ البتُولِ الفارسُ الهُمامُ
بَحرُ الحِجى وكاسِرُ الأصنامِ * صِنْوُ الرسولِ بطَلُ الإسلامِ
وَليْ فكانَ عقدُهُ مسَتَدَّا * لمَّا غدَا بالفضلِ مستبِدَّا
وإنَّما نازعَهُ مُعاويةْ * بِشُبَهٍ عن الصوابِ نائيةْ
تأوَّلا بقاتلي عُثمانَا * أخطأ فيهِ وادَّعى عُدوانَا

فصل

في تقديم الصحابة بعضهم على بعض

رضي الله عنهم

وأفضلُ الصحابةِ الصديقُ * ثُمَّ يليهِ عُمرُ الفاروقُ
ثُمَّتَ عثمانُ شهيدُ الدَّارِ * ثُمَّ عليٌّ قاتلُ الكفارِ
وطلحةٌ ثم الزبيرُ بعدَهْ * وعاشرُ الصَّحبِ أبو عبيدةْ
ثُمَّتْ منْ بعدِ الزُّبيرِ سعدُ * ثمَّ سعيدٌ وابنُ عوفِ بعدُ
وليسَ ذا التفضيلُ عَن يَقينِ * قُلناهُ بَل بالظنّ والتَّخمينِ
واعلمْ بأنَّ هؤلاءِ العشرةْ * مُبايعو النبيّ تحتَ الشَّجرةْ
وسائرُ الصحابةِ الأبرارِ * أولي النُّهى والعلمِ والوقارِ
نُقِرُّ بالفضلِ لهُم ونشهَدُ * إذ قالَ ذا نبيُّنا محمَّدُ
وهكذا نثني على نسائِهِ * إذ سبُّهُم يُخرِجُ عن وَلائِهِ
وقد أتى في سُورةِ الأحزابِ * فضْلُهُمُ في أبينِ الخِطابِ

فصل

ونذكُرُ الآنَ منَ الإمامَةْ * فصْلا ونُنهيها على استقامةْ
جَريًا على عادةِ مَن تقدَّمَا * إن وفَّقَ اللهُ لهُ وأنعَمَا

فصل

العادِلُ السَّويُّ في الصفاتِ * السالِمُ الذاتِ منَ الآفاتِ
القُرَشيُّ المسلمُ الأريبُ * البالغُ المجتهدُ اللبيبُ
هُوَ الإمامُ الواجبُ المُبايعَةْ * والحقُّ في التقليدِ مَعْ مَنْ بايعَهْ
فهذِهِ شرائطُ الإمامةْ * سبعٌ تدبَّرْها تكُنْ علاَّمَةْ
وعندَ بعضِ مَن إليهِ الأمرُ * يكفي كذا نصَّ عليهِ الحَبرُ
أبو المعالي بطلُ التَّحقيقِ * مُستشهدًا ببَيْعَةِ الصّديقِ
هذا إذا استقلَّ في زمانهِ * وامتازَ بالشروطِ عن أقرانِهِ
أمَّا إذا لم يستقلَّ وحدَهُ * فهْيَ لمنْ يحُلُّ منهُم عقدَهُ
فإنْ ولِيْ وجارَ في رَعِيّتِهْ * وخيفَ بعدَ عَزلِهِ مِنْ فتنتِهْ
امتنعَ العزلُ لخوفِ الضَّرَرِ * إذ عزلُهُ يُوقعُهُم في غَرَرِ
ثمَّ اللبيبُ لا يهُدُّ مصرَا * مُستوطِنًا فيهِ ليَبني قَصرَا
وليسألِ الناسُ الإلهَ سِرَّا * إصلاحَهُ أو أن يُزالَ قَهرَا
وحُكمُ مَن قد عُقدَتْ بيعتُهُ * وليسَ أهلا كَالذي قدَّمتُهُ

——————————————-

رحم الله من قال في شيخنا العبدري

وترى شَيْخاً جَليلاً **** عَلَماً في الناسِ أسْمَر

نَهْجُهُ فينا خَلاصٌ **** فيهِ إخلاصٌ تَيَسَّر

عِنْدَهُ الكَرْبُ تَلاشى **** عِنْدَهُ الهمُّ تَقَهْقَر

ذاكَ عبدُ اللهِ شيْخي **** شَرَحَ القوْلَ وفَسَّر

قامَ بالعلْمِ جِهاداً **** ومُتونَ العِلْمِ حَرَّر

أنَّني أُنْتمَى إليهِ **** فأنا واللهِ أفْخَر