حفظ العهد والأمانة

Miscellaneous By Aug 13, 2010

حفظ العهد والأمانة

قال شيخنا رحمه الله في درسه للعاملين في الديوان

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدِ المرسلينَ سيّدِنا محمدٍ خاتمِ النّبِيّينَ وإمامِ المتّقين وقائدِ الغُرّ المحجَّلين يومَ القيامة

أما بعدُ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:لا يَبْلُغُ العَبْدُ حَقيقةَ الإيمانِ حتى يُحِبَّ للنَّاسِ ما يُحِبُّ لِنَفسِه منَ الخَير

هذا الحديثُ صحيحٌ وهذا اللفظ روايةُ ابنِ حبّان وروايةُ البخاريّ أخصَرُ من رِواية ابنِ حِبان.روايةُ البخاري:لا يَبلُغُ العبدُ حقيقةَ الإيمانِ حتى يُحِبَّ لأخيهِ”أما رِوايةُ ابنِ حِبان: حتى يُحِبَّ للنّاسِ“هذه أعمُّ.ثم في روايةِ ابنِ حِبّانَ التّقييدُ بالخير لأنَّ محبّةَ الخير للمسلمينَ ولغَير المسلمينَ هذهِ منَ الحسَناتِ.أمّا محبَّةُ الشرّ لنَفسِه وغيرِه فهو مكروهٌ عندَ الله (أي لا يحبّه الله)(الشّرُّ يَشمَلُ الحرامَ والمكروهَ الذي ليسَ حَرامًا).فروايةُ ابنِ حِبّان أتمُّ مَعنًى وأشمَلُ،فلَمّا قال رسول الله: مِنَ الخيرِ” عَلِمنا أنّه لا ينبغي للإنسانِ أن يُحِبَّ الشّرّ لنفسِه ولا لغَيرِه.ثم الشرُّ قِسمانِ مَعصيةٌ وغيرُ معصيةٍ،محبةُ المعصيةِ لنَفسِه معصيةٌ ومحبّتُه للغيرِ مَعصيةٌ.

ثم إنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا إنّه لا إيمانَ لمنْ لا أَمانَةَ له ولا دِينَ لمن لا عهدَ لهُ“رواه الطبراني وابن أبي شيبة والبيهقي وابن حبان.

(عن ابن عباس قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:إنَّ اللهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ألا إنَّ اللهَ فَرضَ فَرائِضَ وسَنَّ سُنَنًا وَحَدَّ حُدُودًا أَحَلَّ حَلالا وحَرّمَ حَرامًا وشَرعَ الدِّينَ فَجعَلَه سَهْلا سَمْحًا واسِعًا ولم يجعَلْهُ ضَيّقًا ألا إنّه لا إيمانَ لمنْ لا أمَانَةَ لهُ ولا دِينَ لمنْ لا عَهدَ لهُ“رواه الطبراني وغيره.)

 

هذا الحديثُ فيه تَأكيدُ أَمرِ الوَفاءِ بالعَهدِ وفيه تَأكيدُ أمرِ حِفظ الأمانة.معنى الحديث أنّ الذي لا يُحافِظُ على العَهد إيمانُه ليسَ كامِلا،إسلامُه ليسَ كامِلا،هو مسلمٌ صحيحُ الإيمانِ لكنّه لم يَبلُغِ الدّرجاتِ العُلَى،هو مسلمٌ حيثُ إنّه عَرفَ اللهَ وءامنَ برسولِه وتجنَّبَ الكُفرِيّات لكنّه لا يكونُ مُسلِمًا كامِلا حتى يُحافِظَ على الأمَانةِ،وهذا الأمرُ قليلٌ مَن يتّصِفُ به،أكثرُ النّاسِ ليسوا عَامِلين بهذا الحديثِ فَينبَغي أن يُعوّدَ الشخصُ نفسَه الوفاءَ وحفظَ الأمانَةِ.

ومن الأمانة أن يُحافظ المرءُ على مصلحة من يُوكّلُه بالبيع والشراءِ وغيرِ ذلكَ فإذا لم يُراع مصلحةَ مَن وكَّله فقَد خانَ ،مَثلا شىءٌ يُباعُ بثَمنٍ غالٍ مُرتَفعٌ ثم الوكِيلُ يَبيعُه بأقلَّ  مِن ذلكَ هذه خيانَةٌ،كانَ عليه أن يُراعيَ مَصلحةَ الموكِّل ما وَجَد سَبِيلا إلى ذلك ،كذلك المحافظةُ على الأوقاتِ التي وُظِّفَ لأجْلِها فيَنبغي أن لا يتَخلَّفَ عن تلكَ الأوقاتِ إلا لعُذر،كذلك وليُّ اليتيم علَيه أن يُراعيَ مِنْ بابِ الأولى مَصلحَةَ اليَتيم في مالِه،فالتّقصيرُ في ذلكَ أشدُّ ضَررًا،وقد كثُرَ في هذا الزّمن التّسلُّط على أموالِ اليتيم،وقَد وردَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:إنّ الذي يأكُلُ أموالَ اليَتامَى ظُلمًا يُبعَثُ مِن القَبرِ وفَمُه يتَأجّجُ نَارًا”رواه

نارٌ حقيقيةٌ تَخرُجُ مِن فَمِه،ذلكَ اليومَ تَظهَرُ فيه العَجائبُ،تَظهَرُ فيه الشِّدّةُ الشّديدة،هذا معنى قولِ الله تعالى:“يَوم يُكشَفُ عن ساق”السّاقُ في لغةِ العربِ في مثلِ هذا الموضِع معناه الشّدةُ الشّديدةُ ليسَ معناها أن اللهَ لهُ عُضوٌ ساقٌ يَكشِف عنه. الله منزّهٌ عن الجسميةِ ليسَ جِسمًا كثيفًا كالأرض والإنسانِ ولا لطيفًا كالرّيحِ والرُّوحِ .لغةُ العرَبِ واسعةٌ ،كشَفتِ الحربُ عن ساقٍ ،هذا عندَ العربِ معروفٌ يعني اشتَدّت .يومَ يُكشَفُ عن سَاقٍ “معناه تَظهَرُ ذلك اليومَ شدائدُ كثيرةٌ،الكافرُ يمشِي على وجْهِه ،كما أمشَاهُ الله في الدُّنيا على رِجلَيه يُمشِيه الله على وجْهِه حتى يَظهَر أنه مَهِينٌ حَقير،هذا في بعض الأوقاتِ،وفي بعضِ الأوقاتِ يمشِي على رِجلَيه.

بعضُ شعراءِ العرَب قال وقامتِ الحربُ بنا على ساقٍ أي شِدّةٍ شديدةٍ ،نُفاةُ التّوسلِ لا يفهَمُون لُغةَ العَرب الأصلية التي نزَل بها القرءانُ لا يَعرفون الحقيقةَ والمجاز .نفاةُ التّوسلِ لا يعرِفُون الله ومَن لا يَعرفُ الله لا ينفَعُه في الآخِرة شَىء.

الله خَالقُ الجسم اللطيفِ والكثيف.العرشُ ما كان ولا الأرضُ ولا السّماء ولا الفراغُ ولا الروح ولا الظّلام ما كانَ شىءٌ إلا الله،الله الذي خلقَ هذه الأشكَال والأنواعَ لا يكونُ كشىء منها .

يُقال لمن ينسب الجسمية إلى الله أنت جِسمٌ هل تستطيعُ أن تخلقَ جسمًا كبيرًا أو صغيرًا هل تَستطيع أن تخلقَ حَبّة خَردل ،الله لو كان جِسمًا مثلَنا ما استطاع أن يخلُقَ شيئًا منَ العالم.         

   ثم الجسمُ لطيف وكثيفٌ النّور جسم والملائكةُ جسمٌ والجنّ جِسم .مع أنّ الشيطان يَدخلُ في جِسم ابنِ ءادم( أي غيرِ الأنبياء) ولا يَشعر به، والقرينُ الذي يُلازم الشخصَ ليُوسوس له بالشّرِّ في صَدر الإنسان يُلقي إليه الوَسوسَة لا يَشعُر به الشخصُ لكن يجبُ الإيمان بذلكَ .كلُّ ما جاء في القرءان والحديث فهو صِدقٌ.

ومثالٌ يؤكّدُ ذلك،كانَ أحَدُ عُلماءِ اللغةِ قبلَ تِسعِمِائة سنةٍ عمِلَ بَيتًا في وصفِ الخمرِ ،ما كتَبه وما نَطقَ به فإذا برَجُلٍ مَاثِلٍ أمامَه فقال له أَنشِدني البيتَ الذي قُلتَه في الخَمر فتَحَيّر هذا الشخصُ مِن أينَ قال هذا وهو لم يَكتُب البيت ولا قالَه فقالَ له الآخَرُ أنا قرينُك.(أي أن القَرينَ أَخطَر لهُ البيتَ أي وَسوَسَ لهُ بالبيتِ،والقَرين لا يَعلمُ الغَيب ولا يَعلَمُ ما في قَلبِ الإنسان).

  (عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:مَا مِنكُم مِن أحَدٍ إلا وقَد وُكّلَ به قَرِينُه منَ الجنّ قَالُوا وإيّاكَ يا رسولَ اللهِ قالَ وإيّايَ إلا أنّ اللهَ أعَانني عليه فأَسْلَم فلا يَأمرُني إلا بخَيرٍ “رواه مسلم.قال النووي في شرح مسلم قال القاضي :واعلم أن الأمّةَ مجتَمعةٌ على عِصمةِ النبي صلى الله عليه وسلم منَ الشّيطان في جِسمِه وخاطرِه ولسانهِ .وفي هذا الحديث إشارةٌ  إلى التّحذير مِن فِتنَةِ القَرِين ووسوَستِه وإغوائهِ فأعلَمَنا بأنّه مَعنا لنَحتَرِز منه بحسبِ الإمكانِ.