لقد صرنا في ءاخر الزمان

Miscellaneous By Sep 11, 2018

لقد صرنا في ءاخر الزمان

لقد صرنا في ءاخر الزمان، والله أعلم عدد الناس الذين مروا على هذه الدنيا قبلنا، آلاف مؤلفة عاشوا وماتوا، أكثرهم لا ذكر لهم اليوم، لكن، منهم قلة قليلة لا زالوا يذكرون كل يوم بيننا… نظروا إلى ما هو أبعد من أغراضهم الشخصية والملذات الزائلة، فتركوا بصمات لا زالت تذكر بعد رحيلهم بمئات بل بآلاف السنين أحيانًا…

المواقف التي رسمت الآثار

عند ذكر شخص بالخير أو بالسوء، سواء كان حيًّا أم ميتًا، مات منذ زمن قريب أم بعيد، فإن من أول الأسئلة التي تُسأل: “ماذا  يفعل هذا الشخص” أو “ماذا كان يفعل”؟ يتردّد هذا السؤال أكثر من السؤال عن شكله أو أهله أو عمره أو ماله وجماله، بل إنَّ من سأل عن بعض تلك الأشياء قد يسارَع إلى وصفه بأنّه “سطحيّ”…

كم كان عمر أبي بكر عندما مات؟ كم كان معه من المال؟ كيف كان شكله؟ كم كان له من الأولاد؟ أغلبنا لا يعرف جوابًا كاملًا على هذه الأسئلة، مع معرفتنا كلِّنا بأبي بكر رضي الله عنه… ماذا عرفنا عنه إذًا؟ عرفنا أفعاله ومواقفه، عرفنا وقفته مدافعًا عن الحقّ… عرفنا تصديقه وإيمانه برسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته له… عرفنا غيرته على الدين وما فعله لإعلاء كلمة الدين…

أكثر العصور التي يذكرها المسلمون في أيامنا عصر النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصحابته، فهو خير القرون وكان فيه عافية هذه الأمّة…  كم عدد هؤلاء الصحابة الذين ما نفتأ نذكرهم؟ اختلف، وقال بعضهم إنهم نحو مائة ألف وأربعة عشر ألفًا، فقد شهد تبوك سبعون ألفًا، وكان معه في حجَّة الوداع أربعون ألفًا …. كم واحدًا تستطيع أن تعدِّد الآن من الصحابة؟ قف لحظات وتذكَّر… ربَّما أغلبنا لا يجاوز العدد الذي يبلغه مائة… مائة من فوق المائة ألف! مع تَرَضِّينا على الصحابة وحبِّنا الكبير لهم وعلمنا أنَّ قرنهم مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان خير القرون! الآن… انظر في الأسماء التي تذكَّرتها… لأيِّ شىء علقت هذه الأسماء في بالك دون غيرها؟… أبو بكر رضي الله عنه لم تذكره لمجرد أنَّ له مالًا، بل لأنَّه نصر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بماله… وقوة عمر رضي الله عنه ليست وحدها سبب ذكره بيننا، بل استعماله لقوَّته في نصرة الدين…. وكذا سخاء عثمان وعلم عليّ وأمانة أبي عبيدة ونصرة الزبير وغيرهم كثير… قال تعالى: ﴿ونكتب ما قدموا وآثارهم﴾. قال الغزالي في إحياء علوم الدين: “والآثار ما يلحق من الأعمال بعد انقضاء العمل والعامل”.

ذهبوا كلُّهم، وبقيت ءاثارهم… وليست تلك الآثار قصورًا تزار، ولا متاحف جمعت فيها مقتنياتهم الفاخرة… ليست مناصب ورِّثت لأبنائهم من بعدهم، وليست خَدَمًا تتناقلهم الأجيال… بل هي هجرة أبي بكر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومواجهة عمر رضي الله عنه للمشركين عند الكعبة، وتجهيز عثمان رضي الله عنه جيش العسرة، ودفاع عليّ رضي الله عنه عن وحدة هذه الأمّة، إلى غير هذا من المواقف التي تضيء تاريخ أولئك الأكابر…

ومن ناحية أخرى، وفي الطرف المقابل، تجد من الناس من يذكر اليوم، بعد سنين من تركهم هذه الدنيا، لعكس ما ذكر له أولئك الأكابر… فما أبعدَ ما تركه فرعون والنمرود وأبو جهل وأبو لهب عمّا تركه من كان عمله لله… فرق كبير… ففرعون يلعن إذا ذكر… ونذكر الآية التي ذمَّ الله فيها أبا لهب ﴿تبَّت يدا أبي لهب﴾… ويُترضى على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكرام ويسمَّى الأولاد بأسمائهم عسى يكونوا مثلهم…

أولئك الأبطال الذين تركوا بصمتهم الظاهرة في التاريخ، ما اكتفوا بحبِّ الخير… بنيَّة أن يفعلوا الخير من غير عمل مع ذلك… بلومهم أنفسهم على تقصير حصل منهم… بالحلم بمستقبل باهر للأمة… بتمنِّي تغيُّر الأحوال من غير التحرك لتحقيق ذلك… كيف وقد سمعوا ووعَوا وعملوا بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم: «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله»…


قد تترك الأثر بكلمة

لا تدري ما الأثر الذي تتركه بكلمة تقولها، بعلم تعلِّمه، أو عمل تعمله…

بعض أعلام هذه الأمة ممن كان نفعهم عميمًا على المسلمين، حرَّكتهم كلمة من غيرهم… كلمة واحدة قيلت في موضعها، فأدَّت إلى نفع عمَّ الأمَّة… فهذا الشافعيّ رضي الله عنه، كان خارجًا لطلب النحو والأدب… قال: “فلقيني مسلم بن خالد الزنجي فقال: يا فتى، من أين أنت؟ قلت: من أهل مكة، قال: أين منزلك؟ قلت: بشعب الخيف، قال: من أى قبيلة أنت؟ قلت: من عبد مناف، فقال: بخ بخ، لقد شرفك الله فى الدنيا والآخرة، ألا جعلت فهمك هذا فى الفقه فكان أحسن لك؟!”… فكان هذا مما دفعه للاشتغال بالفقه رضي الله عنه، فصار علمًا من أعلام هذه الأمة، حتى فُسِّر به الحديث: «عالم قريش يملأ طباق الأرض علمًا»… ثم دلَّ الشافعيّ من بعده على هذا الخير، حتى ترك هو الأثر الذي لا يخفى على الناظر… عم أثره العلماء وطلبة العلم، حتى قال الإمام أحمد بن حنبل: “ما أحد مسَّ بيده محبرة ولا قلمًا إلا وللشافعيّ فى رقبته منّة”…

وهذا البخاريّ رضي الله عنه… ساطع الذكر بين المسلمين منذ زمانه… صاحب أصحَّ مصنَّف في جمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم… حرَّكته كلمة من الإمام إسحاق بن راهويه، كان أثرها جمع صحيح البخاري… قال البخاري: كنا عند إسحاق بن راهويه فقال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنّة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح…  فأمضى البخاريّ ستة عشر عامًا في جمع صحيحه، تاركًا أثرًا لا ينكره أي شخص اطَّلع على جامعه، وكانت كلمة من إسحاق بن راهويه سببًا في ذلك…

نعم… لا تدري إلى أين حد تؤثر كلمتك، فلا تزهد في ذلك، ولا تترك الدلالة على الخير ما استطعت لذلك سبيلًا… وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الدالّ على الخير كفاعله»، وقال: «لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا»… فإذا عملت بمقتضى هذين الحديث بنية خالصة تجد هذا ذخرًا لك يوم القيامة بإذنه تعالى…

ليست العبرة بالسنّ وعدد السنين…

من الصحابة من عاش حتى الثلاثين أو الأربعين فقط لا غير، ولكنه ترك أثرًا واسعًا في الإسلام، وحقَّق في سنين قليلة الكثير والكثير، فمصعب بن عمير رضي الله عنه مات شابًّا، ولكنه فتح يثرب فتح دعوة قبل هجرة الرسول إليها، وترك في تاريخ الإسلام أثرًا بالغًا… وسعد ابن معاذ عاش في الإسلام سبع سنين فقط، ولكنّه لما مات اهتز عرش الرحمن لموته… أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان خليفة على المسلمين ثلاث سنوات فقط، كان له فيها دور بارز في حفظ المسلمين وجماعتهم بعد المصيبة التي حلَّت بهم من موته صلى الله عليه وسلم وارتداد قوم من العرب بعده وامتناع بعض المسلمين من دفع الزكاة…..

ومن أئمة الإسلام من لم يتجاوز الستين من عمره، ولكنه ترك عشرات الكتب الهامة ومئات التلاميذ النابغين وعلمًا موروثًا من بعدهم إلى يومنا هذا، كالإمام الشافعيّ والإمام الغزالي، وهذا النوويّ رحمه الله صاحب الذِكر البارز بين الشافعية، مات قبل أن يبلغ خمسين سنة…


إلا من ثلاثة…

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»…

أما الصدقة الجارية ففسَّرها العلماء بالوقف، فمن وقف أرضًا مثلاً لينتفع بها فقراء المسلمين مثلًا لحقه ثواب ذلك حتى بعد موته… ولا يزال إلى أيامنا أراض موقوفة منذ مئات السنين، يلحق واقفوها الثواب وهم في قبورهم ببركة عملهم الصالح ووقفهم تلك الأراضي…

وكذلك العلم مما ينتفع به بعد موت صاحبه، فتراه يذكر على الألسنة ويُدْعا له أكثر من بعض الأحياء… وذلك للخير الجزيل الذي جرى على يديه وانتفع الناس به بعده بتوفيق من الله عزَّ وجلَّ… فمن منّا يعرف من كان أكبر تاجر في زمن الأئمة الأربعة أو البخاريّ ومسلم أو الأشعريّ والماتريديّ؟ أو أغنى شخص؟ أو أقوى رجل؟ أو أجمل امرأة؟ أو صاحب أكبر بيت؟  كل هؤلاء لم يتركوا آثرًا كالذي تركه أهل العلم الأكابر جزاهم الله عن الأمة خيرًا…

وأما الوالد الصالح فيكون ذخرًا لأهله بعد وفاتهم يتذكرهم بالدعاء والصدقة وغير ذلك، وقد روى البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “تُرفع للميِّت بعد موته درجتُه، فيقول: أيْ ربِّ أيُّ شىءٍ هذه؟ فيُقال: ولدُك استغفرَ لك”…

قال النوويّ: قال العلماء معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته وينقطع تجدُّد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة؛ لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلّفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية وهي الوقف. وفيه دليل لصحة أصل الوقف وعظيم ثوابه وبيان فضيلة العلم والحثّ على الاستكثار منه والترغيب في توريثه بالتعليم والتصنيف والإيضاح، وأنّه ينبغي أن يختار من العلوم الأنفع فالأنفع، وفيه أنّ الدعاء يصل ثوابه إلى الميت وكذلك الصدقة وهما مجمع عليهما.

فيا لها من مرتبة ما أعلاها، ومنقبة ما أجلها، أن يكون المرء في حياته مشغولًا ببعض أشغاله، أو في قبره، وصحف حسناته متزايدة تملأ بالحسنات، وأعمال الخير تصله… ﴿ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم﴾…

وهناك أمور أخرى دلَّ الحديث على بقاء أثره بعد موت صاحبه، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: دخل النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على أمِّ معبدٍ حائطًا، فقال «يا أمَّ معبدٍ من غرس هذا النخلَ؟ أمسلمٌ أم كافرٌ؟»، فقالت: “بل مسلمٌ”، قال «فلا يغرس المسلمُ غرسًا، فيأكل منه إنسانٌ ولا دابةٌ ولا طيرٌ، إلا كان له صدقةٌ إلى يومِ القيامةِ» رواه مسلم. قال النوويّ عندما شرح هذا الحديث والأحاديث التي بمعناه: “في هذه الأحاديث فضيلة الغرس وفضيلة الزرع، وأنَّ أجر فاعلي ذلك مستمرٌّ ما دام الغرس والزرع وما تولد منه إلى يوم القيامة”.


السنّة الحسنة

قال صلى الله عليه وسلم: «من سنَّ في الإسلام سنَّة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شىء، ومن سنَّ في الإسلام سنَّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شىء» أخرجه مسلم.

إن من الآثار التي تبقى بعد موت الشخص ما كان سنَّه في حياته ومشى الناس عليه بعده، فإنّ من الناس من يحدث شيئًا على غير مثال سابق، لكن يكون هذا الشىء موافقًا لقواعد الشرع منسجمًا مع تعاليم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيسير هو والناس من بعده عليه، فيكون له أجر من عمل بها بعده لا ينقص من أجرهم شىء كما أخبر صلى الله عليه وسلم… ولهذا أمثلة كثيرة، فاجتماع الناس على قارئ في التراويح إنما هو بدعة أحدثها عمر رضي الله عنه، لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر رضي الله عنه، إنما أول حصول هذا الأمر كان في زمن الفاروق رضي الله عنه. روى البخاريّ في صحيحه عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلةً في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرِّقون، يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: “إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل»، ثم عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: “نعم البدعة هذه”… ولا زال عمل المسلمون على هذا إلى أيامنا…

لكن على الشخص أن يحذر، فالبدع ليست كلها حسنة، إنما منها ما هو سيّئ كما دلَّ الحديث: «ومن سنَّ في الإسلام سنَّة سيئة»… وأغلب البدع لا تكون موافقة للدين، وهذا المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «وكلُّ بدعة ضلالة» أي أغلب البدع… والطريق لمعرفة البدعة هل هي حسنة أو سيئة عرضُها على قواعد الشريعة، فإن كانت موافقة لما جاء في الشرع وحثَّ الشرع عليه فهي بدعة لا شكَّ حسنة، وإن كانت مخالفة لذلك فهي بدعة سيئة، وقد بيَّن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله فيما روته عنه السيدة عائشة رضي الله عنها: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» رواه مسلم، فالمردود ما خالف الشرع، وأما ما كان موافقًا للشرع فليس مردودًا…